حازم الامين:عن المسافة بين أمير المؤمنين الملا عمر وخليفة المسلمين/داود الشريان: السعودية ومصر وإيران/خالد الحروب: سقوط العثمانيين: مقاربات ودروس

576

عن المسافة بين «أمير المؤمنين» الملا عمر… و «خليفة المسلمين»
حازم الامين/الحياة/02 آب/15
في إعلان موت الملا عمر حضر «داعش» أيضاً بصفته الموديل المُجدد للسلفية الجهادية، وحضر أيضاً بصفته وريثاً محتملاً لتجربة العنف الذي خلفه ابن قندهار الفقير ونصف الكفيف والزعيم الغامض لطالبان. والحال أن تراجيديا «الرجل الغامض» على ما يحلو للصحافة الغربية تسميته، تحمل إلينا أيضاً بعض الدروس عن طالباننا الخاصة، أي عن «داعش» الذي يشبه طالبان أكثر مما يشبه «القاعدة». والملا الراحل عمر، أمير المؤمنين يمت بدوره بصلة ما إلى «خليفتنا»، على رغم اتهام الثاني الأولَ بانشغاله بالهم «القومي» لجماعته، وابتعاده عن الدعوة بالسيف إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة الأفغانية. طالبان الجماعة البشتونية التي استدخلت الديوبندية الحنفية على الطقس العشائري القاسي والصارم، نقلت عشائر البشتون إلى موقع حركي، وألغت الحدود التي كانت تفصلها في دولتين، أي باكستان وأفغانستان. «داعش» فعل ذلك أيضاً بين العراق وسورية وبين عشائرهما، وإن كان أقل إخلاصاً وتمسكاً بقيم هذه العشائر. ولعل وجه الشبه بين الجماعتين يرتفع إلى مستويات مدهشة حين نستحضر توليهما في زمنين متباعدين ومن دون تأثر مباشر ببعضهما بعضاً، مهمة متشابهة لجهة تدميرهما ما اصطلحت «الإنسانية الجديدة» على تسميته إرثاً حضارياً. تماثيل باميان وآثار الموصل. والخطوتان خلفتا أثرين متشابهين. ذهول العالم وعجزه عن وقف المهمة. ووجه الشبه هنا لا يكمن في الفعلتين ذاتهما، إنما بعدام اكتراث الجماعتين لحساسية إنسانية تشكلت خلال قرني الحداثة الأخيرين، ويؤشر ضعف الحساسية هذا إلى تشابه غير مقصود وغير مفتعل. وإذا كان «داعش» وريث «القاعدة» فهو لا يصلح لأن يكون وريث طالبان، خلافاً لما أرفقته وكالات الأنباء بأسفل خبر موت الملا عمر. ذاك أن الهم الأفغاني، والبشتوني منه تحديداً، لا يمكن أن يُمثله «خليفة» يقيم في مدينة الموصل العراقية أو الرقة السورية. فالأصل القومي لطالبان لم تُضعفه الديوبندية الجهادية التي أحلتها الجماعة في صلب طقسها العشائري. البرقع الأفغاني الأزرق لم تأتِ به طالبان من المدرسة الديوبندية. كان زياً تقليدياً قاومه نظام نجيب الله الشيوعي ولم ينتصر عليه، وأعادته طالبان بصفته زياً قومياً منسجماً مع الشروط «الشرعية». بهذا المعنى، طالبان بشتونية قبل أن تكون ديوبندية.
وعدم صلاحية «داعش» لوراثة طالبان بعد موت أميرها وتصدع إمارتها، يكمن أيضاً في وجه الشبه بين الجماعتين. فعلى قدر ما هي طالبان بشتونية قبل أن تكون ديوبندية، «داعش» عراقي وسوري أيضاً قبل أن يكون «سلفياً جهادياً»، أو بمعنى آخر «داعش» بعثي وقريب من المتن العشائري الذي يصل صحراء غرب العراق وشماله ببادية الشام. فكيف لبعثي أن ينتزع تمثيل البشتون الأفغان أو الباكستانيين. «السلفية الجهادية» لا تكفي لتستقيم هذه الوراثة. حين أقامت «القاعدة» في عاصمة إمارة طالبان قندهار، بقيت جسماً تنظيمياً مستقلاً عن الجماعة الأفغانية، ولم تكن بيعة أسامة بن لادن الملا عمر أكثر من خطوة شكلية لم تمل خضوعاً. هذه المسافة بين الجماعتين أملتها أيضاً المسافة بين القضيتين، قضية «القاعدة» وقضية طالبان اللتان لم يجرَ خلط بينهما، واشتغلت كل واحدة منهما وفق آلياتها الخاصة، فاعترفت «القاعدة» للجماعة البشتونية بالخصوصية القومية لـ «قضيتها» فيما دفّع الملا عمر إمارته ثمن المهمة في نيويورك وواشنطن، تلك المهمة التي يرجح خبراء كثر أن طالبان لم تكن على علم بها قبل حدوثها. «داعش» أقل صفاء في تركيبته العشائرية والقومية من طالبان، والأخيرة أكثر تمثيلاً للحساسية المحلية. في أفغانستان وفي إقليم وزيرستان الباكستاني تشعر بأن البشتون هم طالبان، وأن الديوبندية ليست أكثر من تنويع طفيف استدخل على ثقافة البشتون من دون أن يستفزها أو يهددها. الأرجح أن هذا الأمر يختلف في حالة «داعش»، فالتنظيم في المدن العراقية والسورية التي يحتلها هو سلطة عارية. سلطة تسعى إلى الاستعانة بالمعطيات المحلية، لكنها مهددة إياها في آن واحد. البعث أيضاً كتجربة وكخبرة عنصر استجد في الحالة الـ «نيو سلفية جهادية» العراقية، وكذلك دور «الجهاديين الغربيين»، وما أضافوه على الظاهرة من احتمالات. وهذان معطيان تفترق فيهما الجماعة الأفغانية عن تنظيم الدولة.
طالبان اليوم تفاوض الحكومة الأفغانية، وللجماعة وجود وتمثيل في عدد من الدول كباكستان وقطر وربما تركيا. وموت الملا عمر، أو إعلان موته الذي من المرجح أنه وقع قبل تاريخ إعلانه بكثير، ترافق مع محطات من هذه المفاوضات وتداخل معها. فقد صدر عن الملا بيان تأييد للمفاوضات التي تجريها أطراف من طالبان مع حكومة كابول، والأرجح أن البيان صدر بعد موت «أمير المؤمنين» وأن من يقف وراءه هم حمائم طالبان، فيما رد الصقور كان عبر الكشف عن موت الرجل، وذلك بهدف إجهاض المفاوضات.
العودة بالزمن عقدين إلى الوراء تتيح احتمالات مرعبة. طالبان بدءاً من النصف الثاني من تسعينات القرن المنصرم كانت «داعش» اليوم. استضافت كل إرهابيي العالم وطبقت الحدود وإن على نحو أقل عنفاً. هدمت تماثيل باميان، وفي إمارتها جرى التخطيط لـ11 أيلول (سبنمبر). كانت أقل عنفاً ومشهدية من «داعش» لكنها بقياسات ذلك الزمن أثارت الذهول نفسه. السؤال الذي يتبادر بعد جسر المسافة الزمنية التي تفصل بين نشوء الجماعتين هو: هل يمكن أن نرى «داعش» بعد عقد من الزمن على طاولة التفاوض مع حكومات عراقية أو سورية؟ الجواب بلا قاطعة صحيح، مثلما كان الجواب لا قاطعة صحيح في حالة طالبان! موت أبو بكر البغدادي مثلاً والقضاء على القيادة البعثية للجماعة يُغير الـ «لا». قد لا يجعلها نعم، ولكن قد يجعلها «لم لا». انعدام الشرط الأخلاقي لمفاوضة «داعش» لا يستمرّ كثيراً، ومصالح الدول وربما المجتمعات لا تتطابق دائماً مع الشروط الأخلاقية. هذا تماماً ما يحدث في أفغانستان اليوم، أي بعد عقدين على نشوء طالبان. زمننا أسرع من ذلك الزمن غير البعيد. اختبار هذا الاحتمال في حالة «داعش» لا يحتاج أكثر من عقد.

السعودية ومصر وإيران
داود الشريان/الحياة/02 آب/15
كتب جميل مطر مقالاً مهماً عن السياسة الخارجية لمصر خلال العقود الثلاثة الماضية، نشر في جريدة «الشروق» المصرية، بعنوان «تحركي يا مصر»، اعتبر فيه أن السياسة الخارجية لمصر أضرت بأمنها القومي، وذلك بسبب تدخل أجهزة أخرى غير وزارة الخارجية، حرمت مصر من ممارسة حقها في «تشكيل بيئة أمنية إقليمية جديدة في الشرق الأوسط». وهو يرى أن مصر وقعت ضحية «دول عظمى طلبت من أصدقائها الالتزام والطاعة والاطمئنان، بينما راحت ترتكب أخطاء جساماً استفاد منها خصومها الذين صاروا بسبب انجرافنا في صداقات غير ذات معنى عميق أو هدف قومي أصيل، خصوماً لنا وراحوا يحملوننا مسؤولية ما ارتكبه أصدقاؤنا الكبار». ويضيف: «ألوم كل من حاول أن يخفي عنا حقائق إيران، بسلبياتها وإيجابياتها، لأنه كان السبب في أن جاء يوم يتفاجأ فيه المحلل السياسي المصري، وبشكل أخص، صانع القرار السياسي بحقيقة لم يدرك من قبل عمقها، وهي أن المجتمعات السياسية الخليجية قد لا تكون كما كنا نراها على البعد، وحدة متطابقة السياسات والأهداف والعلاقات الخارجية. أين نحن في مصر من هذه «المواقف» الخليجية؟ كيف نلحق بركب سريع الخطى لنقترب من إيران؟». ما قاله جميل مطر عن كسب مصر خصومات دول بسبب انجراف سياستها الخارجية وراء صداقات دول كبرى، ينطبق على آخرين، فضلاً عن أن معظم الدول العربية لا يعتمد سياسة الانفتاح على الجميع، ويخضع العلاقة بدولة ما بقربها أو بعدها من تلك الدولة الشقيقة أو الصديقة أو الحليفة. ومن يقرأ تاريخ العلاقات العربية – التركية والعلاقات العربية – الإيرانية، خلال العقود الخمسة الماضية، سيجد أن هذه العلاقات تتذبذب صعوداً وهبوطاً استناداً إلى تأثر هذه العلاقة بمصالح ورغبات دول أخرى، وأصبح بعض الدول العربية يعتقد أنه من مصلحته تجميد هذه العلاقات من أجل علاقته أو شراكته مع دولة أخرى. ولك أن تتخيل حال الوضع، في منطقة الشرق الأوسط، والخليج تحديداً، لو أن مصر والسعودية ظلتا على علاقة منفتحة مع إيران وتركيا خلال العقود الماضية. لكن الذي حدث أن البلدين فرطا بهذه الفرصة من أجل دول كبرى، وأحياناً دول شقيقة صغيرة تحرض على إيران في العلن، وتقيم علاقات معها تصل إلى حد الشراكة. لكن اللافت في مقال جميل مطر هو قوله إن «المجتمعات السياسية الخليجية قد لا تكون كما كنا نراها على البعد، وحدة متطابقة السياسات والأهداف والعلاقات الخارجية»، وهو محق في هذه الملاحظة. من يقرأ أدبيات وبيانات «مجلس التعاون» سيجد أنه خصم عنيد لإيران، في حين أن سياسة دول في هذا المجلس لا علاقة لها بهذا الموقف. ومثلما دفعت مصر ثمن قراءتها الخاطئة لمواقف دول الخليج من إيران، من خلال بيانات مجلس التعاون، كذلك الحال مع السعودية. لا شك في أن انفتاح السعودية ومصر على إيران والتفاهم معها في شكل مباشر، يصبان في مصلحة الأمن القومي للبلدين والأمن الإقليمي في المنطقة، فضلاً عن أن انفتاح القاهرة على طهران يجب ألا يثير حساسية سعودية، وانفتاح الرياض على أنقرة يجب ألا يغضب مصر، طالما أن البلدين جناحان في جسد واحد.

سقوط العثمانيين: مقاربات ودروس
خالد الحروب/الحياة/02 آب/15
يقدم يوجين روغان أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في كلية سانت أنتونيز، مقاربة جديدة ومثيرة لسقوط العثمانيين في كتابه الجديد والضخم والتوثيقي «سقوط العثمانيين: الحرب الكبرى في الشرق الأوسط 1914-1920». يأتي كتاب روغان في قلب سيل شبه مفاجئ من الكتب والأبحاث حول الدولة العثمانية وسيرورات انحلالها في القرنين التاسع عشر والعشرين. ثمة جاذبية خاصة في الحقب المفصلية للإمبراطوريات، خصوصاً لحظات الأفول والسقوط، تظل تغوي الباحثين والأكاديميين بالعودة إليها. وإغراء البحث في تلك الحقبة التاريخية الخاصة بانهيار الإمبراطورية العثمانية يأتي في هذا السياق، ولا يزال يتمتع بقوة كبيرة وملفتة، وهي الحقبة التي شهدت أيضاً بدايات انحسار المشاريع الإمبريالية الأوسع في العالم، البريطانية والفرنسية.
إنه العقد الأول من القرن العشرين الذي ازدحم بأحداث مهولة وحروب أكثر هولاً، وأسس للعالم وتقسيماته ودوله وحدوده كما نعرفها اليوم. مع انهيار العثمانيين انفتحت شهية الاستعمار الأوروبي، الذي حل فوراً في المناطق التي اندحرت منها جيوش الآستانة، ثم ما لبث أن قسم تلك المناطق تبعاً لمصالح المتروبول الغربي وتوافقاته، ضارباً بعرض الاستسخاف رغبات ومطالبات وأحلام الشعوب والنخب التي كانت في أكثر من موقع تحالفت مع الأوروبيين ضد الاستبداد العثماني. لكن هل بقيت ثمة جوانب لم يتم البحث فيها من السؤال التاريخي الكبير: كيف واصلت الإمبراطورية العثمانية مسيرة الضعف منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وانتهت إلى السقوط المحتم؟ هذا ما يواجهه روغان في كتابه ويحاول ناجحاً تقديم ما هو جديد.
روغان الذي قدم إلى المكتبة الغربية قبل بضع سنوات كتاباً مرجعياً وكلاسيكياً كبيراً صار من أهم الكتب والأكثر مبيعاً، وعنوانه «العرب»، يقدم اليوم كتابه الجديد من منظور مشابه، وهو النظر إلى الحرب الأولى وتحليلها وانهيار الدولة العثمانية من الضفة الأخرى للأحداث، أي الضفة الشرق أوسطية وليس الغربية. يقول روغان إن الأدبيات الغربية عن الحرب الأولى وكذلك عن أفول الإمبراطورية العثمانية تنطلق من رؤية الأشياء والأحداث من زاوية غربية بحتة، فمثلاً تُختصر معركة غاليبولي ومعارك الدردنيل الشهيرة في الجانب الغربي لتركيا في سنوات 1914 و1915 بين دول الحلفاء والأتراك، بأنها «معركة تشرشل»، وتُختصر الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك في المشرق بكونها «ثورة لورانس العرب»، وكذا تختصر معارك بغداد والقدس وسقوطها بأيدي البريطانيين بنسبة كل منها إلى القائد العسكري الذي دخلها، فيصبح السقوط المدوي للقدس ودلائله ومعانيه التاريخية مجرد «انتصار اللنبي».
على ذلك، فإن ما يقوم به روغان في هذا المقاربة التأريخية القيمة، هو نقل كراسات البحث والتحليل والتأريخ والتوثيق إلى ما خلف خطوط النار وعلى الجبهة الشرقية، وينظر إلى الأحداث والحرب من هناك وليس من الجبهة الغربية. في مقدمة الكتاب يذكر لنا حادثة من تاريخ عائلته توجز ببلاغة ما يخلفه الركون إلى الأدبيات الغربية في دراسة الحرب الكبرى وموقع الشرق الأوسط منها، وكذا الانهيار الموازي للعثمانيين خلالها. فعندما زار مع جزء من عائلته مقابر البريطانيين الذين سقطوا في واحدة من معارك الدردنيل الشهيرة، لزيارة أحد أجداده الذين ماتوا في تلك الحرب، صدم لمعرفته أن تلك المعركة وحدها تسببت بسقوط أربعة عشر ألف جندي عثماني. يقول روغان إن ذلك العدد هو أضعاف أضعاف الـ3400 جندي بريطاني الذين سقطوا في المعركة نفسها، والتي أشبعت بحثاً وتأريخاً وتأسياً بسبب قسوتها وكثرة من مات فيها من البريطانيين. ويضيف أنه على رغم تخصصه في الموضوع والكتب الكثيرة التي قرأها عن الحرب الأولى والعثمانيين والحلفاء، خصوصاً حروب الدردنيل، فإنه لم يقرأ عن سقوط 14 ألف جندي تركي، لأن التأريخ الغربي للحرب أهملهم. وهكذا، فإن هناك تاريخاً شبه جديد وأحداثاً لم تلق الاهتمام والبحث المطلوب وقعت على الجانب الآخر من الحرب، الجانب الشرق أوسطي والعربي، لكن تم تغييبها أو إهمالها في أحسن تقدير.
تمثل الحرب الأولى الحرب الكونية الأولى التي انخرطت فيها أمم وجيوش وحكومات لا حصر لها. وعلى رغم أن جيوشاً من البريطانيين، والفرنسيين، والنيوزيلانديين والآسيويين المجندين في جيوش الحلفاء، وكذا الأفارقة، من سنغاليين وماليين وغيرهم، حاربوا في مناطق الشرق الأوسط، فإن المنظور الشرق أوسطي والعربي لهذه الحرب غائب كلياً. ويأمل روغان أن يعيد الاعتبار إلى حضور ومساهمة ورؤية وآراء الناس الذين تم تغييبهم في تلك الحرب.
يضع روغان إصبعه على عصب حي ومتوتر في التأريخ العربي الحديث، وهو موقع العرب ودورهم في الحرب الأولى، وهم الذين كانت أراضيهم من العراق وسورية الكبرى وفلسطين إلى شمال أفريقيا ومصر أحد أهم ميادين تلك الحرب. لا نملك تأريخاً عربياً خاصاً بها، ولا نعرف أرشيفات محترمة توثق لما حدث، ولا حتى لقوافل القتلى، سواء مدنيين أم مُجندين في هذا الجيش أو ذاك. نعرف في شكل عمومي وغامض مثلاً أن الجيش التركي كان جند عشرات الآلاف من العرب، خصوصاً من بلاد الشام، وأرسلهم للتدريب ثم للقتال في جبهات بعيدة عدة، مثل البلقان وشرق الأناضول ومعارك الدردنيل وغيرها. لكننا لا نعرف على وجه الدقة والتفصيل مصائر أولئك المجندين والنهايات التي آلوا إليها، وكم أعداد القتلى منهم، أو من عاد منهم إلى بلاده، وما هي قصته.
تتوزع مسؤولية غياب الجهد البحثي والتأريخي، فمن ناحية لا يزال بعض الحكومات يمسك بتلابيب أرشيفاته الرسمية ويقفل بالشمع الأحمر على أحداث مر على وقوعها قرن من الزمان أو عقود كثيرة. وهذا في حد ذاته قصور نظر هائل يناظر من يشدد قفل الباب على يده عوض أن يفتحه. صحيح أن لا أحد يعلم موثوقية وأهمية ما ينطوي عليه كثير من الأرشيفات الرسمية العربية والتركية والإيرانية، لكن التركية منها على وجه التحديد بالغة الأهمية، سيما ما خص منها الحرب الأولى وجبهات الحرب العربية التي خيضت. لكن من ناحية ثانية هناك تقصير أيضاً في جانب الباحثين والمؤرخين العرب المحدثين الذين لم ينتبهوا إلى أهمية تقديم «رؤية من الداخل» لتلك الحقبة العاصفة من القرن العشرين والتي قلبت شكل وجودهم السياسي ومستقبله في المنطقة. هذا على رغم أن أجدادهم من أمثال شكيب أرسلان، كانوا انتبهوا باكراً إلى أهمية تلك الحرب وما ستجلبه على العرب.
لكن علينا أن نقول إن بدايات انحلال الإمبراطورية العثمانية وأفولها كانت بدأت باكراً جداً وربما في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، بالتوازي تقريباً مع النهوض الأوروبي الحاد، العلمي والفكري، وللمفارقة بعد حصار فيينا. هل لنا أن نؤرخ لذلك الانحلال بوصول السلطان العثماني عثمان الثالث إلى الحكم عندما كان في السابعة والخمسين، وكان قضى من عمره واحداً وخمسين عاماً وهو في «الحرملك» يعيش بين النساء والحريم ومحظور عليه الخروج من هناك إلى الحياة العامة.
في حقبة ما بعد السلطان سليمان القانوني، آخر الحقب الذهبية للعثمانيين، انتشرت اغتيالات وانقلابات القصر، وخوف كل سلطان من أشقائه، أو حتى أبنائه، إلى درجة قتل كل أولئك دفعة واحدة. ثم تم التوصل إلى حل يُحجَر بموجبه على كل يمكن أن يكون ذي خطر على السلطان القائم، ويوضع في «الحرملك» لسنوات طويلة. وهكذا، عندما تطورت ظروف خاصة اضطرت أصحاب القرار إلى جلب عثمان من «الحرملك» لتسلم قيادة السلطنة، كان هذا السلطان جاهلاً بكل ما له علاقة بالعالم الخارجي على الإطلاق. في تلك الأثناء، كان ملوك مستنيرون يحكمون أوروبا، مثل فريدريك الكبير في بوتسدام، ويقودون القارة إلى النهوض، فيما عثمان الثالث بدأ مسيرة الانحطاط بالعثمانيين.