إلياس الزغبي: في حطام الصورة

290

في حطام الصورة
إلياس الزغبي/لبنان الآن/11 تموز/15

لا يبذل الباحثون في آثار ما جرى داخل الحكومة وخارجها جهداً كبيراً كي يقرأوا النتائج ويُحصوا الخسائر ويجمعوا حطام أوهام هنا، وشعارات هناك، وصورة هنالك.
على الأقلّ، صُوَر ثلاث لميشال عون وبطانته، تحطّمت في شارع المصارف وقاعة الحكومة:
– الصورة الأخلاقيّة عبر تقديمه نموذجاً فظّاً ل”وجهه” الدبلوماسي في خرق الأصول واللياقات واستغلال وسائل الإعلام في وجه أكثر السياسيّين دماثةً وخُلُقاً وحرصاً على الدستور وصلاحيّات رئاسة الجمهوريّة، الرئيس تمّام سلام. وكانت النتيجة تحقيراً لصاحب الفظاظة ومن يمثّل.
– صورة حامي المسيحيّين و”سيف النصارى”، التي حطّمها بشعارات طائفيّة مخجلة ومقزّزة طالما أنِفَ منها المسيحيّون، حتّى في الحروب التي كادت تستأصلهم. فكان أبعد ما يكون عن الحقوق المسيحيّة ورقيّهم وانفتاحهم ووجدانهم التاريخي الصحيح.
– صورة ‘حاضن” الجيش وراعيه وقائده ‘الفعلي” منذ 30 عاماً! فقد وقف في وجه المؤسّسة العسكريّة ميدانيّاً باعتداء مناصريه على العسكريّين، وسياسيّاً في حنقه المعلن على مديريّة التوجيه، وعلى الضبّاط الذين ‘نسوا ما ربّاهم عليه”!
كان واضحاً أنّ عون يريد أن يكون الجيش مطيّة دائمة لبلوغه كرسي الرئاسة. هكذا ‘ربّاه” بين 1984 و1990، وحين أحرق ورقته في حربَي ‘التحرير والإلغاء” تركه إلى قدره على الجبهات و”نفد بريشه” إلى السفارة ومنها إلى نعيم ‘المنفى”. وحين عاد سنة 2005 ظلّ متمسّكاً بورقة الجيش – المطيّة، مزايداً بين نهر البارد والكويخات وعبرا وطرابلس وعرسال، قاطعاً الطرق وحارقاً الدواليب ومتاجراً بدماء الضبّاط والجنود، إلى أن أحرقها بنفسه في شارع السراي. وقد ربح الجيش عطف الناس وتحرّر من لعبة استغلاله.
لقد اختار ميشال عون، في نهايات طريقه، أن يكون ‘داعش” المسيحيّين أو ‘أسدهم” لا فرق، قاطعاً مع مسيرتهم وتاريخهم كخميرة حضاريّة للوصل بين الأديان والأعراق والشعوب، ومساحة حريّات وديمقراطيّة. وعمل، من حيث يدري (أو لا يدري؟)، على تشويه هذه المسيرة وفتح مستقبلهم على المجهول، ودائماً باسم استرداد حقوقهم. ذهب إلى الزمان الخطأ، كي يغطّي على الصراع الشيعي – السنّي بصراع مفتعل مسيحي – سنّي. وإلى المكان الخطأ، فحقوق المسيحيّين لا يحتجزها تمّام سلام ولا ‘تيّار المستقبل”. حقوقهم كامنة في الدولة، بدءاً برئيس جمهوريّتها الذي ألغاه بفعل فردانيّته، يأخذونها كاملة حين تعود الدولة كاملة، لا شبه دولة يتحكّم بها مع سلاح وليّه.
ثمّ، فليُسأل هو قبل سواه عمّن أهدر حقوق المسيحيّين منذ حربيه قبل ربع قرن حتّى الآن، ولم يستردّ حقاً واحداً أو شبه حقّ، لا لمسيحيّي الضاحية بمن فيهم أهله، ولا في مركز المدير العام للأمن العام، ولا في الجنوب وجرود جبيل وشمال البقاع، ولا في الحقائب العشر و 8 سنوات في ثنائيّة السلطة والمال.
والحقيقة أنّ أيّ مسيحي عاقل وحريص على حقوق المسيحيّين لم يجد نفسه في هذا الأداء الذي قدّمه عون في الأيّام الأخيرة، ولا قبلها طبعاً. لكنّ هذا الأداء بلغ انحداره الأخير على المستويات الثلاثة، وبات مخجلاً لأيّ مسيحي يمتلك الحدّ الأدنى من الحسّ النقدي والتمييز بين الخطأ والصواب. وارفضاض المسيحيّين من حوله، وحتّى أقرب حلفائه، رسالة واضحة، عبّر عنها سليمان فرنجيّه في تصريحه الأخير.
يحقّ لعون وسواه اللعب والمناورة في السياسة، لا في الأخلاق ولا في الوطن ولا في مصير المسيحيّين. ويحقّ لوريثه خوض غمار وراثة تيّاره داخل هذا التيّار، وليس داخل الحكومة وفي شوارع اللبنانيّين ولقمة عيشهم وطرق سعيهم إلى الحياة، أو في التجارة القذرة بالحقوق والصلاحيّات. وقد قرأ أكثر من مراقب في الخطّة المكشوفة التي اعتمدها الوريث الأوّل بأدائه الشارعي داخل الحكومة وخارجها، محاولة لشراء عاطفة ‘العونيّين” الممانعين، ولإقفال الباب أمام أيّ وريث آخر ضمن البطانة العائليّة نفسها. حاول إدخال موقع الرئاسة في حسابات الوراثة، فسقط وأسقط من وراءه وفوقه وتحته.
إنّها بالتأكيد من ‘علامات الأزمنة”، وجوه متعدّدة لنهاية واحدة. فكلّ الأجسام السياسيّة تشيخ في وقتها، لكنّ جسماً مركّباً على مجموعة عواطف وأحقاد وأخطاء وردود فعل وشعارات خاوية غير قابل للاستمرار طويلاً، بل يشيخ في طفولته أو شبابه.
وأمامنا اليوم نموذج واضح: جسم لا يتعدّى عمره السياسي عقداً، بحث عن صيغة حياة حزبيّة تكفل استمراره فلم يجدها، وهو يترنّح قبل أن ينهار، لفقدانه أُسساً ثلاثة: الأصالة والتنظيم والأخلاق.
إشارات لنهاية سيّئة، بعد رقص طويل على قبور الشعارات الخادعة.