مصطفى فحص: موسكو الحائرة//محمد علي فرحات: قضية المسيحيين اللبنانيين//خيرالله خيرالله: حرب الإخوان على مصر//موناليزا فريحة: هل تغزو تركيا سوريا

285

هل تغزو تركيا سوريا؟
موناليزا فريحة/النهار/8 تموز 2015

الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يطالب منذ 2011 بمنطقة عازلة على الحدود مع سوريا. اقترح فكرته رسميا في مجلس الامن فأسقطتها واشنطن. ومع تشكيل الائتلاف الدولي لمكافحة الارهاب عاد إلى طرح هذه الفكرة، رابطا تعاونه مع الائتلاف بتحقيق طلبه. هدد مرارا بتدخل عسكري لاقامة هذه المنطقة بالقوة، وسربت وسائل الاعلام تقارير عن أن رئاسة الاركان تعمل مع المؤسسات المعنية على اعدادها من النواحي اللوجيستية والعسكرية والقانونية. منذ طرد القوات الكردية وبعض الفصائل السورية المعارضة “الدولة الاسلامية” من تل أبيض، عادت الماكينة الاعلامية لاردوغان لتكرار اللازمة. تقارير تحذر من أن “وحدات حماية الشعب” أخطر على تركيا من “داعش”، وأنها تنفذ تطهيرا اتنيا ضد العرب والتركمان وتحاول ربط المناطق الكردية في شمال سوريا، وبالتالي انشاء ممر على طول الحدود التركية. وأردوغان نفسه حذر من أن تركيا لن تسمح باقامة دولة في جنوبها “أيا يكن الثمن”، بالتزامن مع معلومات مفادها ان الحكومة طلبت من الجيش اتخاذ الاجراءات الضرورية لمواجهة التهديد الآتي من سوريا. “طبول” الحرب هذه توحي بأن أنقرة حسمت أمرها وقررت أخيراً دخول سوريا. ربما وجد حزب العدالة والتنمية أن الوقت حان لاضعاف الاكراد الذين خشي دوما أن يكونوا المستفيد الأكبر من الحرب على “داعش”، بعد حصولهم على أسلحة متطورة وباتوا قاب قوسين من اقامة اقليم كردي في سوريا يتواصل جغرافيا مع أكراد العراق وتركيا. لكن “طبول “الحرب هذه قد يكون لها هدف آخر، لا دخول سوريا بقدر ما هو الخروج من المشهد السياسي الداخلي التركي الذي تبدل جذريا منذ انتخابات السابع من حزيران الماضي التي فقد فيها الحزب الحاكم غالبيته المطلقة بعد 13 سنة تقريبا في الحكم. ليس أردوغان من النوع الذي يمكن أن يحكم في ظل حكومة ائتلافية. وهو أكثر دهاء من أن يجازف بانتخابات مبكرة قبل أن يضمن تأييدا أوسع لحزبه. ولعل هذا السياسي المحنك وجد في التهويل بالحرب مخرجا من أزمته. فشبح الحرب يثير ذعر الاسواق المالية، و بضع قذائف تسقط هنا وهناك تعمق مشاعر القلق واللاستقرار بين الاتراك. وضع كهذا يصب في مصلحة أردوغان ويعزز نظريته عن حاجة البلاد الى القبضة الحديد لحكم الحزب الواحد. في “طبول” الحرب ايضاً رسالة واضحة الى واشنطن وتحالفها الناشئ مع أكراد سوريا.بتهديدها بالتدخل في سوريا، تتطلع أنقرة ايضاً الى الضغط على واشنطن لاعادة النظر في “سياستها الكردية” التي لا تتفق ومصالحها. نظرياً، تبدو احتمالات التدخل التركي في سوريا مفيدة جداً لاردوغان.عملياً، أثبتت السنوات الاربع الاخيرة وقبلها، أن أردوغان مستعد لكل شيء، بما في ذلك استخدام السياسة الخارجية لبلاده، من أجل ترتيب “قصره” الداخلي.

حرب «الإخوان» .. على مصر
خيرالله خيرالله/المستقبل/08 تموز/15
ما تتعرض له مصر اليوم يعطي فكرة عن حجم التحديات التي تواجه المشير عبد الفتّاح السيسي والبلد نفسه. يدفع السيسي الذي دخل في مواجهة مفتوحة مع الإخوان المسلمين ثمن القرار الكبير الذي اتخذه الشعب المصري قبل عامين. أنهى الشعب المصري حكم الإخوان لمصر، فقرّر هؤلاء شن حرب على مصر. نزل ملايين المصريين إلى الشارع يوم الثلاثين من حزيران ـ يونيو 2013. اسقط المصريون حكم الإخوان بدعم من القوات المسلّحة التي انحازت لهم. وجدت مصر عربا شرفاء، في طليعتهم المملكة العربية السعودية، يقفون معها من منطلق أن مصر حاجة عربية وأنّ سقوط مصر إخلال بالتوازن في المنطقة. تحدّى العرب الذين وقفوا مع مصر قوى عدّة. على رأس هذه القوى الإدارة الأميركية وتركيا. لم تفهم الإدارة الأميركية الحالية أن للعرب رأيهم في الإخوان وأنّه لا يمكن التفريق بين إخواني معتدل وآخر متطرّف. كلّ الإخوان من الطينة نفسها. من اسامة بن لادن…إلى ابو بكر البغدادي مرورا بمصعب الزرقاوي وايمن الظواهري، كلّ هؤلاء من طينة واحدة هي طينة الإخوان المسلمين. كان لا بدّ من إنقاذ مصر. كان القرار الذي اتخذه الشعب المصري برفض الإخوان قرارا مصيريا. ارادت مصر أن تقول لكلّ من يعنيه الأمر إن الإخوان لا يمثلون اللعبة الديموقراطية وأنّ كل ما فعلوه هو خطف الثورة الشعبية التي اطاحت حسني مبارك وعملوا بكلّ الوسائل للإستحواذ على السلطة والتمسّك بها إلى ما لا نهاية.
الدليل على ذلك، الإجراءات التي اتخذها محمّد مرسي خلال توليه الرئاسة والتي كانت تستهدف تغيير طبيعة الإدارة المصرية، والمؤسّسات الأمنية، أي ما يعرف بـ»الدولة العميقة» في مصر. لعلّ أوّل ما نساه الإخوان أنّ المؤسسة العسكرية المصرية لعبت دورا اساسيا في التخلص من نظام حسني مبارك بأقلّ مقدار ممكن من الخسائر بعدما أقنعته بالتنحي والذهاب إلى منزله. أصرّ الإخوان على محاكمة مبارك وإذلاله مع نجليه. أرادوا تأكيد أنّ لا عودة إلى خلف وأنّ مصر هي بالنسبة إليهم الجائزة الكبرى التي تعني أوّل ما تعني سيطرتهم على أكبر البلدان العربية.
من اغتيال النائب العام هشام بركات في القاهرة بواسطة سيّارة مفخّخة، إلى سلسلة التفجيرات في انحاء مختلفة من مصر، وصولا إلى الهجمات على مواقع الجيش والأمن في شمال سيناء، يبعث الإخوان برسالة. فحوى الرسالة أنّهم دخلوا حربا على مصر. لن يتخلوا عن هدفهم المتمثّل في السيطرة على مصر. سيستمرون في ذلك مستفيدين من عاملين أولهما الحدود الليبية المفتوحة والآخر «الإمارة الإسلامية» التي اقامتها «حماس» في قطاع غزّة. أمّا العامل الثاني فيتمثّل في القوى الخارجية التي تدعمهم.
هناك في الواقع حرب تُشنّ على مصر. لا شكّ أن قوى خارجية تدعم هذه الحرب وتزود الإرهابيين بالسلاح وحتّى بالرجال. ليس طبيعيا أن يتمكن مئات المسلحين من مهاجمة مواقع عدّة للجيش والأمن في شمال سيناء بطريقة توحي أنّهم جيش منظّم يمتلك أسلحة متطورة بما في ذلك صواريخ مضادة للطائرات تحمل على الكتف. لا شكّ أن السلطة المصرية تتحمّل مسؤولية كبيرة على صعيد تقصيرها في اتخاذ التدابير المطلوبة تحسّبا لما يضمره الإخوان للبلد. لدى الإخوان مخططات واضحة كلّ الوضوح. يريدون اسقاط عبد الفتّاح السيسي. يستفيدون من تقوقع القيادة المصرية الجديدة على نفسها وعدم إقدامها، أقلّه حتّى الآن، على خطوات تثبت من خلالها أنّها قادرة على شنّ حملة واسعة على الإرهابيين.
من المهمّ أن تحسم السلطات المصرية أمرها. من المهمّ التأكد أن لا وجود لإخواني معتدل وآخر متطرّف. فالإخوان يمثلون النبع الذي تتغذّى منه كلّ التنظيمات المتطرّفة، بمن في ذلك «داعش». الأهمّ من ذلك كلّه إقتناع القيادة المصرية أن مصر في حال حرب وأنّ مستقبلها على المحكّ وأنّه لا يمكن التهاون مع إرهابيي الداخل ولا مع أولئك الموجودين في ليبيا أو في قطاع غزّة أو في هذه الدولة العربية أو غير العربية أو تلك. ليس كافيا اعتراف رئيس الوزراء المصري بأن بلاده في حال حرب. لا مفرّ من التصرّف من هذا المنطلق وعلى كلّ المستويات. هذا يعني بكلّ بساطة أنّ على مصر المبادرة وأن لا تترك نفسها «ساحة» يلعب فيها الآخرون.
نظرا إلى أنّ مصر في حال حرب، لا يمكن الإستخفاف بالقوى التي تشنّ الحرب على الدولة العربية الأهمّ. يحصل ذلك، في وقت تكتفي إدارة أوباما بالتفرّج على ما يدور في المنطقة ولا همّ لها سوى التوصل إلى إتفاق مع ايران في شأن ملفّها النووي.
ألقت القوى المعادية لمصر بثقلها في الحرب الدائرة. يستوجب ذلك التحرّك السريع للقوات المصرية في سيناء من أجل تطهيرها من الإرهاب. ليس سرّا أنّ اكتفاء مصر، بالدفاع عن النفس هو دعوة إلى الإرهابيين لمتابعة حملتهم. ثمّة حاجة إلى مبادرات مدروسة بالتنسيق مع قوى عربية لوضع حدّ للحرب على مصر. هذه الحرب ستكون طويلة، بل طويلة جدّا. تدفع مصر ثمن التقصير في كلّ المجالات منذ تولي العسكر السلطة في العام 1952. حارب جمال عبد الناصر الإخوان لكنّه لم يفعل شيئا يذكر للقضاء على ثقافتهم التي تفشّت في المجتمع المصري والتي راحت تنتشر مجددا مع وصول انور السادات إلى السلطة في السنة 1970. انتشر الإخوان في عهد حسني مبارك الذي استمر ثلاثة عقود في ظلّ تراجع الإعلام المصري، خصوصا أمام الخطاب الديني المتشدّد. غزا هذا الخطاب الصحف الرسمية والإعلام الرسمي في غياب وعي لأهمّية الإعلام ونشر ثقافة الإعتدال عبره. كان مبارك يحارب الإخوان ويتركهم يتغلغلون في الإعلام الرسمي في الوقت ذاته! الحرب على مصر ستكون طويلة. ليست حربا على مصر وحدها. إنّها حرب على الإسلام المعتدل ايضا وعلى العرب وموقعهم في المنطقة. لن تقضي مصر على الإرهاب غدا. الحاجة أكثر من أي وقت إلى استراتيجية بعيدة المدى تأخذ في الإعتبار أوّلا أنّ لا هوادة في المواجهة مع الإخوان المسلمين. هؤلاء كانوا حلفاء السادات في مرحلة معيّنة. لكنّهم ما لبثوا أن انقلبوا عليه. الأمر نفسه حصل مع حسني مبارك وإنّ في ظلّ ظروف مختلفة عائدة إلى أن السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك كانت خالية من أيّ قدرة على فهم التعقيدات الداخلية والتعاطي معها. يمكن الإستفادة من تجربة السادات مع الإخوان، كذلك من تجربة مبارك للتأكد من أنّ الكلام في مصر، هو كلام عن حرب طويلة، بل طويلة جدّا. إما تبادر مصر خارج حدودها، في ليبيا وغزّة تحديدا… وإمّا تبقى اسيرة حلقة مغلقة يسعى أعداؤها إلى إدخالها فيها.

قضية المسيحيين اللبنانيين؟
محمد علي فرحات/الحياة/08 تموز/15
رأى المفكر الراحل كمال يوسف الحاج في رئيس الجمهورية المسيحي رسالة مزدوجة إلى الداخل اللبناني وإلى العالم العربي، واعتبر مشاركة الرئيس اللبناني في القمم العربية تمثيلاً لدولته وللمسيحيين العرب في آن واحد. هذا الرئيس يتعذّر انتخابه لأسباب معقّدة، والقمة العربية تبدو متعذّرة ليس لعجز اللبنانيين عن انتخاب رئيسهم، وإنما أيضاً لكون رئيسَيْ العراق وسورية لا يمتلكان السيادة التامة على بلديهما بعدما اقتطعت معارضات مسلحة حوالى نصف مساحة كل من البلدين، فضلاً عن استحالة حضور رئاسي لليبيا الممزّقة ولليمن الواقع في قبضة مسلحين غير شرعيين. التأجيل غير المبرّر لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية يُلقي بثقله على مجلس النواب والحكومة لتنشأ خلافات إجرائية بين مسؤولين ليس لهم رأس. هنا يعلو صوت النائب ميشال عون داعياً هذه المرة إلى تحرُّك شعبي للمطالبة بما يسميه «حقوق المسيحيين السياسية»، ويتوقّع قريبون منه اعتصاماً قرب القصر الحكومي أثناء جلسة مجلس الوزراء، لكن عون وتيّاره يوحيان بتحركات أوسع تُطاول بنى الدولة وتنفَّذ فجأة في وزارات ومؤسسات عامة. حماسة عون وتياره لا تخفى، كما لا يخفى البرود لدى حلفاء عون وخصومه، وحتى رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع اعتبر وضع المسيحيين جيداً «وليس كما يهوّل البعض»، مشيراً إلى عون الذي وقّع مع جعجع اتفاقاً لحسن النيات اقتضى إعداده مفاوضات مديدة بين الفريقين الرئيسيَّيْن للمسيحيين اللبنانيين. لا التحركات ولا الاعتصامات ولا وقف العمل في الإدارات الرسمية تُجدي سياسياً، في بلد انقسم رأيه العام عمودياً، واقتطع كل زعيم طائفة قسماً منه يديره كما يشاء في رباط عاطفي مشحون بتخويف الآخر والخوف من الآخر. والأدهى، أن عون أو مؤيديه يحمّلون «تيار المستقبل» مسؤولية ما يسمّونه «التّردّي السياسي للمسيحيين»، ولا يشيرون إلا قليلاً إلى الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط اللّذين يوافقان الرئيس سعد الحريري في الحدّ من غلو التيار العوني. عند هذه النقطة يصل العونيون إلى حدود المحظور، لأن التركيز على «تيار المستقبل» يمكن تحميله معنىً طائفياً يطاول السنّة اللبنانيين وربما امتدادهم في المشرق العربي. لا نعتقد أن عون يذهب إلى هذا الحدّ، لكن كلام مساعديه يقلق اللبنانيين الذين يعتبرون «المستقبل» تياراً يمثّل الاعتدال بالمعنى الطائفي والانفتاح بالمعنى الوطني، وتصبّ مواقفه في تدعيم استقرار لبنان الذي يتعرّض لضغوط الداخل السوري والعراقي. خوف المسيحيين مبرّر، ولكن ليس كما يطرحه سياسيون يضيفون إلى الطائفية قسوة لم تعرفها في معظم تاريخ لبنان القائم على الاعتراف وعلى التوازن الدقيق بين حق المواطنة وحق طائفي لا يتعدى حقوق سائر الطوائف. وإذا كانت مآسي مسيحيي العراق، وإلى حد ما سورية، تدفع إلى حفظ حقوق مسيحيي لبنان ليبقوا نواة استعادة حرية العقيدة في المشرق، فتحقيق هذا الهدف لا يكون بإشعال صراع طائفي جديد في بلد أرهقته حرب أهلية مديدة سمّاها اللبنانيون تنصُّلاً: «حروب الآخرين». ما يحدث في الداخل السوري والعراقي يخيف المسلمين والمسيحيين، فهم تعرّضوا معاً للتهجير من دولة «داعش» منذ سيطرتها على الموصل وحتى الامتداد في العراق وسورية. شعب توحّده المأساة عملياً ولا يستطيع زعماؤه التعبير عنها سياسياً، وصولاً إلى التركيز على دولة القانون والمواطنة المتساوية. ولئلا يكون لبنان ثقباً أسود يهترئ شعبه داخل دويلات من جسم الدولة أو شبه الدولة أو ركام الدولة، يجب الاعتراف بإيجابية الطائفية السياسية في لبنان القائمة على الاعتراف المتبادل وكشف الستار عن دخائل الحراك الطائفي، وبسلبيتها حين تأخذ التنوُّع نحو الصّدام وربما الحرب بدل اعتباره غنىً ثقافياً. ويظهر أن إيجابيات الطائفية أنقذت لبنان حتى اليوم من مصير مجتمعات طائفية مثل العراق وسورية، كان يتم التعتيم على حقيقتها بل خنقها بقوة ديكتاتورية تستعرض مجتمعها الواحد الموحّد على صورة الحاكم ومثاله

موسكو الحائرة
مصطفى فحص/الشرق الأوسط/08 تموز/15
تصر القيادة السياسية الروسية على عدم مراعاة الحساسيات الدينية والثقافية في تعاملها مع مكونات الفضاء الإسلامي المجاور لحدودها الجنوبية، الممتد حتى سواحل البحر المتوسط، وتعتمد سياسة آنية، يمكن توصيفها بقصر النظر في معالجة القضية السورية، تقوم في بعض جوانبها على الرواسب السياسية والثقافية للحرب الباردة، من المستحيل العودة إليها وتطبيقها، في هذه الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والشرق الأوسط. ولكي تبرر مواقفها الدبلوماسية تلجأ إلى من تبقى من وجوه تلك المرحلة وورثتها، المتمسكين بمبادئ تلك الحقبة الجيوسياسية، وأبعادها الاجتماعية، حيث تعج أروقة مراكز صنع القرار الروسي ببعض المتعطشين لعودة قوية إلى الشرق الأوسط، تحاكي المكانة السوفياتية بشعاراتها الأممية أو القيصرية ببعدها الأرثوذكسي، ويعلقون الآمال بأن تنجح هذه العودة المرجوة في ملء الفراغ الذي سببه سقوط الاتحاد السوفياتي، في مواجهة الأحادية القطبية الأميركية وتفوقها، واستحواذها على الجزء الأكبر من القرار الدولي وهيمنتها عليه، وكأنهم غير منتبهين إلى عدم امتلاكهم لشروط هذه العودة، ومتطلباتها وأدواتها اللازمة.
يمثل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى جانب سلفه في وزارة الخارجية الأسبق، رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية السابق، الراحل يفغيني بريماكوف، رأس الحربة لهذه الأدبيات السياسية، التي انعكست سلبا على موقع روسيا التاريخي في المنطقة العربية، وحولتها إلى دولة معادية في نظر الشعوب والحكومات العربية. وقد وصل الانفعال لدى لافروف في معرض دفاعه عن سياساته الخاطئة في حماية الأسد، إلى حد وضع روسيا في موقع الخصم للأغلبية السنية، ليس فقط في سوريا بل في العالمين العربي والإسلامي، واتباعها سياسة دفاع شرس عما تصفه بحقوق الأقليات فقط، في مشهد يعيد إلى الأذهان الطروحات القيصرية الروسية، حول المسألة الشرقية نهاية القرن التاسع عشر.
بعد استبعادها من مجموعة الدول الثماني الكبرى، وخسارتها لأوكرانيا، وهبوط أسعار الطاقة، وتفاقم أزمتها الاقتصادية والمالية، لم تعد موسكو تملك من أدوات الدولة العظمى إلا وظيفة دولية تؤمنها لها عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، وامتلاكها حق النقض «الفيتو»، حيث استدرجتها الدول الكبرى إلى الإفراط في استخدامه في الأزمة السورية، بسبب عدم استعجال هذه الدول حل الأزمة، فيما بررت موسكو موقفها بأنه يأتي دفاعا عن مصالحها الحيوية في سوريا، ولضرورة الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والخوف من انتقال عدوى التغيير إلى عواصم قريبة من موسكو. منذ وصوله إلى السلطة سنة 2000 عادت موسكو فلاديمير بوتين لتكون شريكا في رعاية أنظمة العسكريتاريا العربية، في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وتعاملت معها باعتبارها حليفة موضوعية في منافسة الولايات المتحدة والغرب، دون الانتباه إلى أن هذه الأنظمة لا تلجأ إلى موسكو إلا عندما تشتد العزلة الأميركية عليها، ويصبح الكرملين محجتها، وعندما تتيقن أن أبواب البيت الأبيض قد سدت بوجهها. فلم تتعلم موسكو من الدرس العراقي مع صدام حسين، والليبي مع القذافي، والسوري مع الأسد الأب، بل تكرره بحذافيره مع الأسد الابن الذي على الرغم من كل الدعم الروسي له ينتظر إشارة أميركية تسمح بإعادة تعويمه، ليكون شريكا في الحرب على الإرهاب وفقا للشروط الأميركية، وأما طهران فهي تنتظر توقيع الاتفاق النووي، لكي تزيل العوائق بينها وبين واشنطن من أجل تعاون سياسي واستراتجي في المنطقة، وتفتح أبوابها أمام الاستثمارات الأميركية، ومن المتوقع أن تحصل الشركات الأميركية على حصة الأسد فيها، والرساميل الأميركية على التسهيلات الضرورية لتكون الشريك الأكبر في إعادة بناء الاقتصاد الإيراني، حيث تظهر التقديرات الأولية أن إيران بحاجة إلى قرابة 350 مليار دولار من أجل إعادة بناء بنيتها التحتية وترميم صناعاتها خصوصا النفطية. في الآونة الأخيرة دقت عواصم إقليمية في مقدمتها الرياض وأنقرة جرس الإنذار لموسكو، بأنها قد تكون الخاسر الأكبر، إذا استمر الكرملين في السياسات المحيرة نفسها التي انتهجها منذ أكثر من عقد، والتي بسببها وصلت طهران إلى بر الأمان النووي، الذي سيسمح لها بالانتقال بسلام إلى الضفة الأخرى، حيث تنتظرها واشنطن مع سلة مكاسب اقتصادية وسياسية قد تكون سوريا في مقدمتها، بعد أن باتت تحت الانتداب الإيراني، فيما سيبقى الكرملين وحيدا على الضفة الأخرى، وأكثر ما يصح في وصف حالته ما كتبه صديق بلاده التاريخي، الزعيم اللبناني وليد جنبلاط الذي غرد على «تويتر»: «من أعلى الكرملين أخطأ القيصر.. من دهاليز البازار الفارسي في طهران يضحك خامنئي ساخرا».