عقل العويط: رسالة إعجاب وغرام

276

رسالة إعجاب وغرام
عقل العويط/النهار/4 تموز 2015

لبنان يسقط في العدم. من شأن هذا المشهد التراجيدي المريب، أن يفضي في لحظة من لحظات الغفلة المصيرية، إلى ظهور مَن يدّعي، في الداخل كما في الخارج، أن له حقوقاً مشروعة في وراثة الجمهورية المستقيلة من ذاتها، فيضع يده على هذه “التركة”. أجد نفسي معنياً، كمواطن مدني، وكاتب من خارج الاصطفافات، بتنبيه العقول إلى مغبّة ما يُرتكَب، في غمرة الانهيار التدريجي المنظّم لمكوّنات الدولة، ومؤسساتها. على سبيل التهكم الأسوَد، اخترتُ، لا النقد والتفكيك، بل توجيه “رسالة إعجاب وغرام” إلى أبناء بلدي، وإلى زعمائهم، باعتبارهم المسؤولين المباشرين عن هذه الجريمة التاريخية الموصوفة. أنا معجبٌ بأبناء بلدي اللبنانيين إعجاباً منقطع النظير، حدّ أنني لا أرى فيهم عيباً. وإذا ثمة عيبٌ جائرٌ يُلحِقه بهم الحسّادُ والطامعون، زوراً وبهتاناً، فإنني أرفضه رفضاً قاطعاً، وأردّه على أعقابه، وأتعامى عنه، متماهياً مع هؤلاء الميامين الأشاوس في السرّاء والضرّاء، ومُوافِقهم الرأي في كلّ ما يرونه، ويفعلونه. لا ريب أن اللبنانيين محسودون بالتأكيد. لذا يعيّرهم حسّادهم بالكبائر والصغائر، ويتّهمونهم بأنهم يرتكبون الموبقات في حقّ حياتهم، وحقّ وطنهم.

أما أنا فباقٍ على عهدي بهم. وكم يعجبني فيهم أنهم يسخرون من النقد، ولا يبالون به. فهم، سبحان الحيّ الباقي، بدل أن يحيدوا عما يعتبره الآخرون نقائص فيهم، لا يبدّلون تبديلاً. بل يزدادون تعلّقاً بما يُنعَتون به من تفاهة وغباء. لقد بتٌّ مقتنعاً بأنهم أرفع شأناً من هؤلاء الآخرين، حتى صار يعجبني تفلسفهم، وادعاؤهم، وزهوهم، وإيمانهم، وجهلهم، وغناهم، وكذبهم، ونفاقهم، وفقرهم، وذلّهم، وانقسامهم، وتخلّفهم، وانتهازهم، وارتزاقهم، ونومهم على الضيم، وحكمهم، وحكومتهم، ونوّابهم، ورجال دينهم، وسلّم قيمهم.

أكثر ما يعجبني فيهم، شغفهم بزعمائهم، وولاؤهم لهم، حدّ الفناء فيهم. بل حدّ الانفناء والإفناء. في حقيقة الأمر، لم أجد ناساً كاللبنانيين، يصل هجسهم بزعمائهم إلى مستوى التقديس. وقد رأيتُ في بيوت الكثيرين منهم، في شتى أصقاع هذه البلاد الصغيرة، ساحلاً وجرداً، شمالاً وجنوباً، بقاعاً وجبلاً وعاصمةً، صوراً لزعماء لهم، تحوطها أكاليل وشموع وتبريكات وتعاويذ، حتى وجدتُني مضطراً أنا نفسي إلى إبداء الخشوع.

لا أعرف تفسيراً منطقياً لهذه الظاهرة التي ربما تنطوي على بعد فلسفي أو غيبي غير قابل للتأويل. وهذا لمّما يفشّل كلّ سعي إلى تبخيس هؤلاء الزعماء أو النيل منهم، ويدعو إلى إبداء المزيد من الإعجاب، بل إلى الرهبة والترهّب. حتى وجدتُني أقول لنفسي محدّثاً، إن سبباً جوهرياً أكيداً ما، غير ظاهر لدى العوام من أمثالي، يجعل هؤلاء اللبنانيين في مأمنٍ من الوقوع في خطأ جسيم حيال مسألة تقديس الزعماء. فهم، لو أنهم على شطط، لكان مرورُ الزمن استجلب انحلالَ الروابط التي تشدّهم إلى زعمائهم – قدّيسيهم هؤلاء، واستجرّ انفكاكَ العرى بينهما إلى غير رجوع.

هاكم أيها القرّاء الأعزاء المَثَل الناصع الذي ينوب عن كلّ مَثَل: كلّما أخطأ زعيمٌ لبناني في مسألة، واستدرّ لنفسه التهكم والازدراء و… الشفقة، بادله شعبه بالولاء والتبجيل. انتبِهوا: ليس من استثناء. فلا تفتِّشوا عن مَثَلٍ محدّد. ولا تسألوا عن براهين. ليس أمامكم إلاّ الأمثلة والبراهين. وليصدّقْني المشكِّكون بينكم. ليس عندي سببٌ خفيٌّ مستور، يدفعني إلى التشبث بهذا الإعجاب الذي بلا حدود. بل أرى أن الأزمات كلّما فرّخت، والأخطاء كلّما تكاثرت، وتراكمت، والسبل كلّما سُدّت، ظهر في الأفق ما ينبئ بأن تعلّق اللبنانيين بسادات قومهم لا يفضي إلى كارثة أو انفجار. إذ ليس على اليائس القليل الإيمان والصبر سوى أن يأمل ويؤمن ويصبر. إن بعد الصبر لفرجاً عظيماً. وعليه، ليس من سببٍ يحمل اللبنانيين على زعزعة إيمانهم بزعمائهم! لا، والله. بل يجب أن يقوى هذا الإيمان، ويتأجّج، ويترسّخ، ويشمخ. بل أكثر: إيمان اللبنانيين بالزعماء يجب أن يوازي المقدّسَ عندهم، وأن لا يُمَسّ، ولا يعتريه خَوَرٌ أو وهنٌ أو هوان، حتى ليصير شبيهاً بالزمان.

فهل تستكثرون عليَّ، أنا المواطن المتواضع، أن يزداد إعجابي باللبنانيين فوق إعجاب، بل أن يتحوّل الإعجاب إلى احترام، بل إلى يقينٍ يجعلني أؤمن بأنهم من طينة أخرى، ويجب أن يُعامَلوا على هذا الأساس؟! القرّاء الذين يخيب ظنّهم بي من جرّاء ما أكتب، أحلف لهم بالله العظيم أنه ليس من حقّهم أن يخيبوا. قد يكون من واجبهم أن يفكّروا، وأن يستنتجوا ما يشاؤون، لكنهم سيكتشفون في الوقت المناسب، أنهم، هم أيضاً، على خطأ. ينبغي لهم أن يصِّدقوا أن بقاء لبنان على قيد التاريخ والجغرافيا، حتى هذه اللحظة بالذات، ليس رهناً ببعد النظر، ولا بالتعقل والحكمة والنأي بالنفس، أو بسوى ذلك من ترّهات. بل بالمعجزات تُجترَح على أيدي اللبنانيين أنفسهم. وأيّ معجزات!