الدكتور داود الصايغ/حين كان الرئيس اللبناني حامياً لمسيحيي الشرق

357

حين كان الرئيس اللبناني حامياً لمسيحيي الشرق
الدكتور داود الصايغ/النهار/21 آب 2014

“ألم يسبق لي أن قلت لفخامتك إن رئيس لبنان المسيحي سيلعب دور فرنسا في حماية نصارى الشرق إذا وجبت الحماية؟”

الرئيس رياض الصلح للرئيس بشارة الخوري في حديث لهما في بغداد في خريف 1947

يعود المشهد الى سبعة وستين عاماً في بغداد، في اليوم الثاني لزيارة الرئيس الإستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري للعاصمة العراقية أيام العهد الملكي. كان الزمن خريفاً والجمعية العمومية للأمم المتحدة تصدر قرار تقسيم فلسطين. وكانت تلك آخر أيام الاستقرار في الشرق.

الشرق العربي الخارج من الحرب العالمية الثانية، بدوله الحديثة الاستقلال، ملتقية في الجامعة العربية الناشئة حديثاً. إسرائيل كانت بعد حبراً على ورق، قبل أن تقوم رسمياً في أيار 1948، وتجري الحروب معها من ثمَّ، وتعقد اتفاقات الهدنة عام 1949. كان ذلك قبل أن تبدأ الأنظمة العربية بالتهاوي نتيجة لتلك الحروب، انطلاقاً من إنقلاب سوريا الأول عام 1949، ثم سقوط الملكية في مصر عام 1952، وحرب السويس عام 1956 وسقوط الملكية العراقية عام 1958، وأحداث لبنان في العام نفسه وصولاً الى حرب 1967. وتوالي الأنظمة الشمولية في سوريا والعراق.

فقد روى الشيخ بشارة الخوري في مذكراته قصة ذلك الحديث بينه وبين الرئيس رياض الصلح. لأنه جرى في اليوم الثاني للزيارة، الذي صادف أنه يوم الأحد. فقد أراد الرئيس اللبناني أن يحضر القداس في المناسبة، فطلب من مدير المراسم جورج حيمري أن يدبر اللازم في هذا السبيل، لكي يذهب الى الكنيسة “على السكت” كما كتب. لكنه فوجئ بأن مواكبة رسمية كبيرة رافقته، وحشوداً تعد بالآلاف استقبلته على مدخل كنيسة الكلدان الكاثوليك في بغداد، مع عدد كبير من الرسميين والرؤساء الروحيين والرهبان والراهبات، ومن المسيحيين الذين غصت بهم الكنيسة. وعندما عاد الرئيس الخوري الى قصر الضيافة منشرحاً الى ما شاهده، عاتبه الرئيس الصلح لأنه لم يبلغه، “فرويت له تفصيل ما جرى فظهرت الغبطة على محياه” وقال له تلك العبارة الواردة أعلاه التي وصفها الشيخ بشارة بأنها تاريخية. وأضاف: “وشكرت الله في نفسي”. ما أوجع هذا الكلام اليوم! ولبنان نفسه وسط عواصف الشرق ونيرانه. وسط تغيير الجغرافيا والتاريخ. لقد ضاقت الفسحة الإنسانية الرحبة التي فتحها لبنان عند نشوئه أمام الآخرين، كل الآخرين، شرقاً وغرباً، في ذلك الأفق اللامحدود للعيش مع الآخر كائناً من كان، في تجربة سبقت الجميع. “حرية الاعتقاد مطلقة” كتب لبنان في دستوره عام 1926، فإذا بنا نرى أنه في ذلك البلد العربي بالذات، العراق، الذي وجد فيه الرئيسان الخوري والصلح ذات يوم من عام 1947 أن شيئاً من الأفق اللبناني قد امتد إليه من خلال الوجود المسيحي الحر فيه، تفرغ مناطقه ومدنه وكنائسه اليوم من المسيحيين، لا بل إن مسيحيي إحدى كبرى مدنه، الموصل، والمناطق المحيطة بها يطردون منها لسبب عقائدي معلن.

هل إنه كابوس حقيقي ينتصب اليوم في وجه لبنان؟ هل تحولت التجربة حلماً؟ هل إن لبنان خائف؟ خائف على مسيحييه أم على تجربته. ولكن هل تجربة لبنان هي ملكه وحده؟

لقد دار الزمان كثيراً منذ تلك الأيام. وعرضها ملك للتاريخ قد لا يفيد حالياً في التطلع الى المستقبل. لأن المهم، في كل مكان وزمان، في مواجهة الكوارث والتحولات، هو كيفية إبقاء النظر متوجهاً الى الأمام.

عام 1994 أصدر الباحث الفرنسي “جان – بيار فالونيه (Valogne)” كتاباً شهيراً عنونه “حياة وموت مسيحيّي الشرق”. حدث ذلك قبل الثورات الأخيرة واحتلال العراق وأحداث مصر. كان، مع غيره من البحاثة الغربيين، ألقوا نظرة على الواقع كما كان وكما يتحول واستخلصوا النتائج، بأن لا مستقبل للمسيحيين في الشرق.

هنالك من رفض الكتاب وصاحبه ورؤيته، لا لموقف مسبق، ولا لعدم صحة الوقائع في بلدان تناقص فيها عدد المسيحيين بشكل ملحوظ، بل لاستحالة أن تكون العروبة محصورة بالمسلمين من جهة، ولأن هنالك واقعاً خاصاً بكل بلد. إذ أن مسيحيي سوريا نزحوا مع الملايين الذين تركوا مناطقهم أكان الى الداخل أم الى الخارج، أما مسيحيو العراق فقد بدأت محنتهم كما محنة سائر العراقيين مع حروب صدام حسين الطويلة والمضنية، إن مع إيران أو في حروب الخليج، وفي الحصار والعقوبات الغربية التي انهكت المجتمع العراقي ما بين 1991 و 2003. وبعد الاجتياح الأميركي عام 2003 وبدايات استهدافاتهم في بغداد والمدن الأخرى، تناقصت أعدادهم بشكل كبير، من غير أن يكون للأميركيين أي اهتمام خاص بذلك النزوح، والذي طاول مكونات المجتمع العراقي الأخرى.

ولكن، بالنتيجة كيف يواجه هذا الواقع؟

يجب قبل كل شيء إسقاط فكرة الحماية الخارجية، أي حماية كانت. لقد انقضى ذلك الزمن منذ وقت بعيد. فرنسا نفسها تحولت من دور لعبته في التاريخ الى مضيفة للاجئين المسيحيين القادمين من الشرق. وكان الجنرال شارل ديغول آخر المسؤولين الغربيين الذين تحسسوا موضوع مسيحيي الشرق وأدرك معنى لبنان في ذلك. فالحمايات تحولت في زمن الثنائية الدولية الى أحلاف بين الأنظمة العربية وكل من موسكو وواشنطن، لم يكن فيها حساب للمكونات البشرية، ولما صار يعرف بالأقليات، التي بدأت بالنزوح مع الأنظمة الشمولية وسياسات التأميم وكبت الحريات. وقسم غير قليل من مسيحيي مصر وسوريا جاؤوا الى لبنان في ستينات القرن الماضي، قبل أن تبدأ محنة لبنان نفسه عام 1975.

وهكذا ليست في الغرب اليوم دولة واحدة يمكنها أن تتحرك لقضايا الشرق المشتعل دفعة واحدة في كل مكان، إلا إذا كانت لها مصلحة مباشرة في ذلك. والبرهان مجازر غزة. والبرهان أهوال الحروب السورية. والبرهان تفكك العراق وحروبه الداخلية. لكن الأبواب مفتوحة للمسيحيين والتسهيلات واضحة.

إلا أن الرأي العام الغربي بدأ يتفاعل بشكل جديد. وكان لافتاً ذلك الكتاب المفتوح الذي وجهه منذ أيام رؤساء وزراء فرنسا السابقون آلان جوبيه وفرنسوا فييون وجان – بيار رافاران الى الرئيس فرنسوا هولاند، داعين إياه الى التحرك، إستناداً الى تراث خمسمائة سنة من العلاقة بين فرنسا ومسيحيي الشرق، وواضعين خطة على المستويين الأوروبي والعربي، وكذلك موقف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون المنبه للأخطار التي ستجلب “الإرهاب الى شوارع بريطانيا إذا لم تتخذ إجراءَات عاجلة لدحره” وكان مجلس الأمن قد اجتمع وأصدر قراراً ولو متأخراً.

أما الفاتيكان، فقد واجه الموضوع بحيوية بما لديه من وسائل. ولا يزال، كمرجعية دولية كبرى تحمل قضية أساسية ولها اتصالاتها ووسائلها ومساعيها اليومية.

ولكن إذا كان الغرب يبتعد عن الشرق، فهل يبتعد الشرق عن نفسه؟ عن عراقة الاختلاط في المجتمعات العربية والحضور المسيحي الذي يرقى الى الأزمنة الأولى للمسيحية. فما العمل اليوم؟

العمل الأول هو عربي – إسلامي، وهو كفيل بإنقاذ الكثير. هنالك تمرد يجب أن يحصل على محاولة فرض هذا الواقع. على غرار ما أدركته المملكة العربية السعودية عبر مبادرات الملك عبدالله قولاً وفعلاً. يبقى العرب والمسلمون الآخرون والمرجعيات الإسلامية والوسائل كثيرة. ويبقى لبنان. إذ أنه عندما قال رياض الصلح ذلك الكلام لبشارة الخوري ذات يوم من عام 1947 في بغداد، إنما المقصود منه كان لبنان وتجربته أكثر منه شخص الرئيس المسيحي. فليس الرئيس هو القادر على الحماية، بل النموذج اللبناني.

اليوم، وأكثر من أي وقت ٍ مضى، تبدو حاجة العروبة الى التجربة اللبنانية ببعدها الحقيقي. وبمبررات وجود هذا الكيان المميز في الشرق العربي. قادة العرب التاريخيون والمفكرون العرب فهموا ذلك منذ البدء. والمخلصون أيدوا لبنان وحاولوا حمايته دائماً. لا لنفسه فقط بل للحاجة إليه. إبعاد النار عن لبنان هو سعي جدي لإطفائها في الأماكن الأخرى. لبنان المصون هو صون للتجربة لا لعكسها. ليس المطلوب أن يكون لبنان ملجأ المسيحيين في الشرق، بل أن يكون الشرق برحابة تجربة لبنان