أكرم البني/الوطن السوري في ذكرى استقلاله

234

الوطن السوري في ذكرى استقلاله
 أكرم البني/الحياة/22 نيسان/15

لم يكن رواد الاستقلال وصانعوه ليتوقعوا أن يصل وطنهم إلى ما وصل إليه اليوم، كانوا على يقين بأن السوريين لا يحتاجون إلى وصاية أحد وليسوا أقل شأناً من الاحتلال، وكانت الثقة تملأهم بأن تضحيات شعبهم من أجل حريته لن تذهب هدراً، وبأنه قادر، حين يأخذ زمام الأمور بيديه، على بناء اجتماع وطني، يحفظ تنوعه وتعدديته، ويضعه في مكان لائق من سلم الحضارة الإنسانية. تحقق الاستقلال، ولكن الحلم أخذ مساراً مختلفاً، فقد نمت أحزاب وجماعات سياسية استحضرت برامج أهملت الاشتغال على تنمية العقد الوطني وتغذيته بقيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وأخضعت مفهوم الوطن لمراميها الأيديولوجية، مرة لمصلحة الفكرة القومية وأولوية معالجة مشكلات الأمة، كقضية فلسطين والوحدة العربية، ليغدو الوطن مجرد واقع طارئ وموقت في خدمة الشعارات القومية العريضة، ما أفضى إلى صراعات بينية وتخندقات، ازدادت حدة بعد وصول أصحاب هذه الشعارات إلى سدة الحكم وتعميم ثقافة مشوهة وضعت إشارة مساواة بين السلطة والوطن، وسوغت قمع واضطهاد كل من يخالفها أو يعترض عليها.

ومرة ثانية من خلال قرن الرابطة الوطنية بالأيديولوجيا الشيوعية، فالوطن هو الوطن الاشتراكي المنضوي في منظومة أممية شيوعية، والذي يفاخر بأن السيادة فيه لدعاة العدالة الاجتماعية، ومن لهم مصلحة من العمال والفلاحين في فرض نمط الحياة الاشتراكية على الجميع! في حين تجاوز حملة الفكر السياسي الإسلامي معنى الانتماء الوطني لمصلحة الرابطة الدينية واعتبروا ما هو قائم من تشكيلات سياسية واجتماعية مجرد نقاط عبور صوب دولة الخلافة الإسلامية، بينما غلبت عند الليبراليين، بضعفهم وهروبهم من الاضطهاد، نزعة التنكر لهوية وطنية تفتقد الحرية والمساواة، وبات الوطن عند بعضهم هو أي مكان في هذا العالم يضمن لهم حقوقهم وكراماتهم.

واليوم تضع دوامة العنف المفرط الوطن السوري أمام منزلقات خطيرة تهدد استقلاله ولحمته وتغذي عناصر التدمير الذاتي فيه، ليغدو الوطن بعد سنوات من صراع عنيف عصف بكل مفاصل الحياة، مشهداً لا يصدق من الخراب والضحايا والتشرد والفقر، وطن بات صوت السلاح فيه هو الصوت الوحيد المسموع بكل ما يمكن أن يخلفه من فتك وتنكيل، وطن باتت تشوهه الانقسامات والاستقطابات المتخلفة جراء شحن روح التنابذ وتغذية عصبيات تهدد النسيج البشري المتعايش منذ مئات السنين، وطن بدأت هويته الجامعة تتفكك جراء عودة كل مكون اجتماعي إلى أصوله كي يضمن بعضاً من الحماية والوجود الآمن، وطن استباحته التدخلات الخارجية من كل حدب وصوب وتحول إلى ساحة لتصفية حسابات الهيمنة والنفوذ على المنطقة، ثم مرتعاً لاستيطان المهاجرين الجهاديين الذين احتلوا، حيث تمكنوا، البيوت وأراضي العائلات الهاربة من أتون الحرب، وطن ترنو إليه عيون ملايين اللاجئين وهم يراقبون خرابه من وراء الحدود ويتحسرون بألم على حياتهم الضائعة، والوطن الذي لم يعرفه مئات ألوف الأطفال الذين غادروا ديارهم صغاراً أو ولدوا في بلاد الغربة من دون انتماء وهوية.

هل ندرك إذاً كم أصبح الشرخ كبيراً بين حلم الاستقلال النبيل وبين هذا الواقع الدامي؟!.

نعترف بوجود عوامل متعددة لا تزال مؤثرة في تقرير مصير الوطن السوري، وبحضور مطامع ومشاريع خارجية تحاول توظيف الصراع وتسعيره وفرض اختيارات ومواقف على الأطراف الداخلية من دون اعتبار للمصلحة الوطنية، ولكن يبقى الأهم ما يتعلق بأمراض البنية الذاتية، والقصد أن لا خير يرجى في معالجة أزمة الوطنية السورية ما دام ثمة فئات تحكم أو تعارض لا يهمها الوطن إلا بقدر ما يعزز تسلطها وفسادها وامتيازاتها حتى لو كان الثمن دماره، وما دام ثمة استعداد لدى أطراف الصراع للارتباط وحتى للالتحاق بأحد مراكز التأثير الخارجي وإخضاع مستقبل البلاد للعبة التنافس الإقليمي والعالمي، وما دامت هناك رؤية قاصرة لمفهوم الوطن اختزلته فكرة مقاومة إسرائيل أو المؤامرات الخارجية، من أجل تمكين الوضع القائم وتأبيد الامتيازات وعناصر الهيمنة والاستبداد وتغييب المعنى الحقيقي للوطن بصفته مجتمعاً حراً ومتطوراً يضمن حقوق الناس وكراماتهم ويكون عنواناً يعتز به كل منتمٍ إليه. وأيضاً نعترف بأننا نعيش اليوم في واقع لم يعد يمتلك مقومات الاستمرار بالصورة التي هو عليها إلا ويجر خلفه مزيداً من العنف والانحطاط والفوضى وتأجيج الصراعات المتخلفة، والمعنى أننا نعيش في وطن متهتك يتأسس خلاصه على رؤية جامعة عمادها حقوق الإنسان ومناخاً لا تسلب طعم الحياة فيه ثقافة العنف والإرهاب أو يشوهه خطاب أيديولوجي إقصائي وسيلته القوة العارية والتوعد بالمزيد من الفتك والتنكيل دون النظر إلى الجدوى أو الثمن الذي يدفعه الوطن من سيادته واستقلاله ومن تماسكه واستقراره ومن مقدراته ومحفزات تطوره.

يتساءل أحدهم متهكماً ومترحماً على أيام زمان، ما كان الضير لو بقيت بلادنا محتلة، هل كنا نقتل بعضنا بهذه الصورة البشعة، أم كانت فرصتنا كبيرة في تمثل التعايش الحضاري “الاستعماري” والتعلم كيف نصون حقوقنا ونحترم حقوق الآخرين؟! ويتساءل آخر حالماً بمعجزة يمكن أن تحدث لتعيد بناء الوطن بعد ما حصل من تفكك وشروخ، ومن دمار وتشرد، ومن تدهور اقتصادي وما خسرته البلاد من كوادر علمية ومهنية وثقافية؟! بينما يتساءل ثالث متشائماً، عن جدوى الرهان على وطن لا يثق أبناؤه بأن الخلاص بات جمعياً ويحتاج إلى تضافر كل الجهود وإلى الاستعداد الكامل لتقديم التنازلات لمصلحة وقف العنف وإذكاء روح التعايش والتوافق، والتأسيس لعقد اجتماعي يمنح دولة المواطنة الديموقراطية دورها العمومي في إدارة البلاد وضمان أمنها وإعادة إعمارها. يحكى أن وباءً حل بقوم وفتك بهم، وعند سؤاله كيف فعلت ذلك؟ كان الجواب، بأنه لم ينل سوى من بعضهم أما البقية فقد تكفل بها فسادهم وخوفهم وأنانيتهم وأحقادهم!.