عقل العويط/مقتل ريمون جبارة

374

مقتل ريمون جبارة
عقل العويط/النهار/18 نيسان 2015

المشهد الأخير من حياة ريمون جبارة؛ مونولوغ مسرحي افتراضي، باللغة العامية، مجسَّداً بشخصه فوق خشبة، قبل مقتله المزعوم، على يد قاتل محترف، وموهوم، ينزل من السماء، أو يأتي من مكان آخر، محفوفاً بأقداره ولعناته ولغاته الجحيمية. الممثّل يخاطب شخصاً غير مرئي، قد يكون شبحاً، وقد يكون المسيح، أو غيره. الشخص غير المرئي محض ذريعة مسرحية، يقترحها الممثّل المخرج لإيصال ما يريد إيصاله إلى الجمهور الجالس في الصالة. يبدو ريمون في المونولوغ كأنه يقول حياته الآفلة، ويكتب وصيّته بجسده الآيل بعد قليل إلى الانحلال والغياب، وبصوته المتسلّل إلى صمته الأبدي. الديكور غرفة مستشفى، بسيطة، فارغة إلاّ من سرير. وخزانة. ومشجب معلّق عليه بنطلون وقميص، قد يكونان بنطلون الممثّل وقميصه. ثمة باب شبه مشقوق، وبياض هائل يفوح من جدران الغرفة، منذراً بدنوّ الأجل. أما الخارج فظلامٌ يشبه ظلام العبث والعدم. أو بياضهما. لا فرق.

ريمون: عم إحكيك، يا زلمي. وينَك ما بتردّ عليّي؟ ع القليلة، كلمة مرحبا عا الماشي. خَبِّرلَك شي نكتة. شي حزّورة. أو سمِّعْني ضحكتك. ها الشي بطلبو منّك، كرمال إيّام الطفولة. نسيت إنّو كنّا نلعب سوا، ونتقاتل كمان؟! مرّة، سبّيتك مسبّة ما بتسوا. بس دفعت تمنها غالي. حطّتني الراهبة بأوضة الجرادين، وركّعتني عا البحص، بعد ما شمطت دَينتي. وسبّتلي كمان. بعرف إنّك سامحْتني يومتها. لها السبب، ما بيجوز تنسى، أو تعمل حالك مش ذاكر! نسيت إنّي كنت بالآخر، بُوسَك واتراضى أنا وايّاك، وقلّك ما تواخذني؟! خَبَّرِتْني الممرضة هون، أو الراهبة، ما بقا اقدر ميِّز، إنّك بعد ما صلبوك، ودفنوك، قمت من الموت. بهنّيك من كل قلبي (يقولها بمرارة ساخرة). بها الحالة، لازم روح زورك وآخدلَك هديّة، وقلَّك الحمدالله عا السلامة. منشان قيمتك. وحكي الناس. والجيران. بس، ما تواخذني، ما عم أقدر أوم من الفرشة. بدَّك الحقيقة، والحكي بيناتنا: ما بعرف ليش إنتي عملت هيك! شو كان بدّك بها الشغلة؟ ما سمعت شو بيقول المتل: اللّي ما مات، ما شاف مين مات؟ هيك بقدر إلعب بالمتل عا ذوقي وقِلَّك: الّلي ما وِلِد، ما بيعرف شو بيصير ببني آدم الّلي بيولدو؟! تطلَّع منيح شو في هون؟ ما شفت بعينيك الناس، كيف بيمرضو، وبيجوعو، وبيتقاتلو، وبياكلو بعضهن؟! ما بقا في طفل. ولا بيت. لِكْ ما بقا في، ولا شجرة. ولا نبعة مي. بسوريا. بالعراق. باليمن. بليبيا. بفلسطين ولبنان كمان. المقابر تَلِّت الدني. وريحة الموت متل الكابوس. ما بقا في مطرح. ولا نسمة ضوّ. الأرض مسكّرة. العتمة بتوجّع، والليل طويل. دخيلَك، عم موت. النطرة ما بتنطاق. والضجر أصعب من الإعدام. يا رَيت معك شي فرد، شي بارودة، شي إبرة مورفين! يمكن إلك مَونة عا الممرضة، أو الراهبة، ما بعرف مين في هون. خلّي حدا يخلّصني بقا…

(الشخص غير المرئي لا يُصدِر صوتاً. ولا يأتي بحركة. صمتٌ مطبق إلى درجة الاختناق. الفراغ يزداد. تتناهى همهمةٌ مريبة من مكانٍ ما في الخارج، تشبه ما يتصوّره الخيال البشري عن عالم الموت).

ريمون (يرنّ الجرس المعلّق فوق السرير، طالباً الممرضة، أو الراهبة): يا هو، يا جماعة، يا سامعين الصوت. يا ماسور، وينِك؟! دخيل إجرَيكِ. كرمال جروحات جيزو (يسوع) ردّي عليّي. عيّطيلو. بلكي بيسمع مِنِّك. إنتي بيعرفِك منيح منيح. أفضالِك عليه كتيرة. ما بيقدر ما يسايرِك. بترجّاكي، خلّيه يطلّ عا الأوضة. عاوزو. بدّي إحكيه كلمتين عا جنب. ما حدا بيعرف، يمكن يغيّر رأيو، يمكن يسمع منّي. هيك بياخدني معو. أكيد، منعمل مشروع سوا. يمكن يحبّ يمثِّل معي. يمكن هوّي بيفضِّل الإخراج. ما بعرِف. عا كلّ حال، بيلْبقْلو. طالِع بإيدو. ليش لأ. هيك، أنا برجع شبّ، وبتذكّر الإيّام الّلي كنت مثِّل فيها، قبل ما صرت مخرج. يعني، بدِّك تقولي، يا ماسور، قبل ما صرت اضحك عا حالي، وعا كميل ورفعت ورضى ومادونا ورندا وجوليا وغبريال. وقبل ما صارو هنّي كمان يضحكو عليّي. قوليلو إنّي حابِب شوفو، ت خبّرو عن جماعتو، وعن هوديك الجماعة كمان. ولاد أوادم، بلا زغرة، من حضرتِك. بس القصة كبرت كتير. ومش منيحة بحقّو، يضلّ الوضع هيك. بلكي بيحكي مع حدا. مع شي مسؤول. مع الله. تنياتن بيفهمو عا بعضن. بدِّك تقولي، أنا متأكد من ها الشي. بترجّاكي، ماسور، نْدَهيلو…

(كمَن يحكي مع العدم، ويناديه. لا أحد. لا شيء. لا صوت. لا حركة. بل فراغٌ يملأ الخشبة. وصمتٌ مطبق).

ريمون: مخروم عا سيكارة. معك سيكارة؟! بدّي شوف الدخنة، كيف عم تلعب بالهوا. وكيف الهوا عم يلعب فِيَا. دخنة السيكارة بتدوّخني. لو بتشوف، شو بتعمل فيّي. شي ما بيتصدَّق، يا زلمي. وقت بسحب المجّة، وبيفوت الهوا ع صدري، كأنّي عم اسحب شي روح. بشعر إنّي بعيش بالسيكارة. وإنّو الحياة سيكارة. ما في هوا بالرَوايا (الرئتان) تبعي. دخنة السيكارة هيّي الهوا. عم تسألني أيّا نوع سواكير، بحبّ دخِّن؟ ما بتفرق معي. لاكي سترايك. كنت. مارلبورو. تطلي عريض. بافرا. سيدرز. سيكارة لفّ… قلتلّي سيكار؟ لا. ما بحبّ السيكار. بفضّل طعمة السيكارة عا شفافي. متل بوسة شي مرا غريبة. متل شي عشيقة بتمرق مرقة حلم. يا رَيت، بتعطيني سيكارة، هيك بِحْلَم إنّا بدّها تاخدني معا. اعطيني سيكارة، دخيلَك، وخلّيني روح. ما بقا بدّي. من زمان، ما بقا بدّي. من وقت ما فوّتوا كلاب الأمن عا مكتبي، تا يشوفو إذا في شي مفخّخ، أو في شي سلاح. ضجران، وبدّي خلِّص من ها الدني الشرموطة. جسمي قِرِف مِنّي. وأنا قرِفت مِنّو. لازم تعرف إنّو مشروعك فاشل. وإنّو الأحلام بتنكسر متل شي شجرة بالريح. وإنّو الانسان كلب ابن كلب… باردون، جيزو. فلتت منّي الكلمة. ما قصدي، إنّي هين الكلاب. إنتي بتعرف إنّن أشرف من الناس، وأحسن بكتير. عا القليلة كلاب عن حقّ وحقيق. بتذكر إنّي مرّة عملت كلب. وحبّيت حالي. شعرت يومتها إنّي كنت منسجم مع نفسي، ومع الوضع كلّو. مش منيحة إنّو الواحد يعيش بجسم مش مقتنع فيه. بيصيرو الناس يقولو عنّو عندو مرض نفسي. انفصام بالشخصية. سكيزوفرينيا، أو شي من ها النوع… الله يخلّيك، اعطيني سيكارة! ولو! بركَع عا إجريك! ببوس قفاك…!

(يتطلع ريمون إلى قميصه المعلّق في مكانٍ ما من الغرفة، فيلمح ما يشبه علبة دخان في جيب القميص. لا بدّ أن الممرضة أو الراهبة، نسيت أن تأخذ العلبة. يحاول أن يقوم من فراشه، لكن من دون جدوى. ينادي، لكن لا أحد يسمع. يتراءى له في الغبش أن شخصاً ما، شبحاً، أو المسيح نفسه، يسحب من جيب القميص سيجارة ويعطيه إياها بعد أن يشعلها له بقدّاحة قديمة. يأخذ ريمون السيكارة بيده الملهوفة، ويتطلّع فيها بعينين متضرعتين، ويمجّها مجّة عميقة، ثمّ ينفث دخانها الكثيف ويغيب فيه. ظلام يخيّم على الخشبة. ويُسدَل الستار. الجمهور يقف. ويصفق تحية للممثل المخرج).