بول شاوول/ رحل الكبير ريمون جبارة «صانع أحلام» المسرح اللبناني

339

 رحل الكبير ريمون جبارة «صانع أحلام» المسرح اللبناني
بول شاوول/المستقبل/15 نيسان/15

… ورحل ريمون جبارة عن ثمانين سنة، كأن صارت ثلاثين دهراً. كأن لم تتسع الحياة، بكل رونقها، وأحلامها وعبثها، وجنونها، ويأسها، وأمراضها، ووهنها لشغفه. بل كان أكبر من شغفه، بالعالم، وبالمسرح، وبالقضايا الكبرى، والعلامات، والمصائر.

ثمانون، وعصاه، وبسمته الساخرة، وسيجارته «الأبدية» وصوته، وما أصابه من شلل نصفي، وما لم يثنِه، أو يحرفه، لاعن خشبة مسرح صارت المكان الآخر للحياة بل صارت حياة متصلة بجسمه، وقلبه، وعقله، و»جنونه»، وبناسه. لم تعطبه حربٌ، ولا كارثة، ولا قهر، ولا قمع، ولا انفلات عنف، كان يخرج دائماً، بمسرحية، أو بمقالة، أو بفكرة، أو بصرخة، أو بدمعة، أو بسخرية سوداء، أو بمشهدية، أو بدور، أو وراء الخشبة، أو الكواليس، أو أمامهما، أو في أسرارهما، أو في لغتهما، وايماءاتهما، وعلاماتهما، فنان البدايات الصاخبة، ريمون. فنان المفتتحات الكبيرة. فنان المنعطفات الخطرة، والمنزلقات، والمواجهات. لم يكن لريمون أن يعانق التزاماً ايديولوجياً خانقاً، أو فوقياً، أو طاغياً، كان ابن الالتزام الذي يتسع لكل ما تضخه الحرية المفتوحة، والمواجهة المباشرة مع الحياة، والظلم، والدكتاتوريات، وقوى الأمر الواقع، والمذهبية، والطائفية، والايديولوجيا المغلقة، والتعصب، والسلطة. كان المسرح عنده فعلاً، أفعل مسرحاً وتكلم. فعلاً حياً. انه من صناع المسرح الرسمي، لا المعلب، الملتبس بمجازاته، العنيف بمشهدياته، الصاخب بصوته. انه المسرح الحديث. صنعه ريمون جبارة مع رواد الزمن الجميل في ستينيات القرن الماضي: منير أبو دبس، عصام محفوظ، انطوان ملتقى، روجيه عساف، نضال الأشقر، وشكيب خوري، ويعقوب الشدراوي، وجلال خوري، وأسامة العارف، وفؤاد نعيم، وشوشو، ورضا خوري ونبيه أبو الحسن… وكل هؤلاء، شكلوا قوس قزح تجارب مختلفة، ومتناقضة، كانت التعبير الأقوى عن الحرية، والثورة، والتغيير، والتجريبية والمغامرة. كانوا الوجه المضيء من جنون بيروت الابداعي، من أزمتها الاسرة، الحنون، موئلاً لكل من افتقد حرية، أو هرب من ظلم، أو أفلت من اضطهاد. بيروت كانت المسرح الكبير، الذي دارت على خشباتها، كل أدوار الحرية، والحياة، والأحلام، وكسر المحرمات، وتجاوز القمع، واطلاق الصوت عالياً. كان ريمون، من تلك الأصوات، على خشبة عالية، ومفتوحة على الاختبار، وعلى الحساسيات الشعبية، والنخبوية، والسياسية. من فرقة المسرح الحديث وحلقة المسرح اللبناني، وفرقة المسرح الحر، كانت المسافة واحدة: الفعل المسرحي في موازاة الفعل الاجتماعي، الفعل الاختبارية في مواجهة التعليب الايديولوجي والنظري. ممثلاً كان، وكم احتل الخشبة ليعلوها، ويملأها، ويزرعها بجسد، يختمر اللحظة الضاربة في أقدارها، الزمن المحدود معانق اللامحدود. بين الستينيات والسبعينيات، جمع بين الأداء والإخراج. لكن تأصيل العمل الإخراجي استهله في السبعينيات (من دون تركه التمثيل أحياناً)، ونتذكر روائعه «لتمت ديزديمونا»، و»تحت رعاية زكور». لكن جاءت الحرب، وانقلبت التواريخ، وتحطمت تخوم الجغرافيا، وانفلت الجنون، وصار الوطن بين أيدي قوى الأمر الواقع. كأنما ريمون يزدهر في الخطر ازدهاره في الأزمنة الآمنة (وهل من أمان للمسرح؟!).

وكانت الفترة الممتدة من عام 1975 الى 1986، خلال حروب العالم على لبنان، الزمن الذي انخرط فيه بالمسرح، كأداة خلاص، ومواجهة، وفعل رجاء، وإدامة صوت الفن والإبداع عالياً، وحاضراً، وفارضاً مداه، ومالئاً فضاءه. وأنا الذي رافقته في كل هذه الأزمنة، كصديق، ومعجب، ومقدر تجاربه الجريئة، كيف أنسى أعمالاً ما زالت ترنّ في ذاكرتي، ومخيلتي، وضميري، وحواسي (فريمون فنان الحواس، لا فنان الكلام فحسب) «زرادشت صار كلباً»، و»قندلفت يصعد الى السماء» و»وكر النحل» و»صانع الأحلام» (نال عليها جائزة مهرجان قرطاج المسرحي الكبرى عام 1985 وكنت آنئذ في لجنة التحكيم الدولية… ولم يتوقف، ولم تهزه «عاصفة»، أو يرده خوف، كان المسرح لحظة حياة «أبدية، لديه، آخر خشبات المواجهة». فكان له، على الرغم من إصابته بعارض صحي، وكانت نتيجته شللاً نصفياً، جاءت الحرب الأخرى، أو الصراع الآخر مع الحياة والعجز، والمرض. لكنه، استمر بعناد وقدم روائع مثل «من قطف زهرة الخريف» و«بيكنك على خطوط التماس» وآخر أعماله «مقتل إنّ وأخواتها» عام 2012. أجسدٌ واحد لكل هذه التجارب والاحلام والنكسات، والألم، أجسد واحد يتسع لكل هذا الصراع، مع الزمن، والعمر، والشلل. أجسد واحد انعطب ما انعطب فيه، ليستوي، ليكمل صعود الخشبات، ويطلق تلك السخرية المُرّة في كتاباته الصحافية في «ملحق النهار»، تلك الصرخات الحادة، المواجهة، المنادية بالوطن وبالحرية والاستقلال: إنه صوت من أصوات الوطن، ريمون جبارة وبرنامجه الاذاعي، آلو ستي» من أطرف اللحظات، وأكثرها خروجاً على المألوف، والعادات والاستكانة.

رحل ريمون جبارة، وكأنه أتى كثيراً، وكثيراً تردد على هذه الحياة التي ملأها بالحلم في زمن الفقدان. في زمن الخواء. انه الجسد المكتنز العلامات والمجازات الكثيرة، جسد المسرح وجسده، صوت المسرح وصوته، خشبة المسرح وبيته، إضاءة المسرح وشمسه، ماكياج المسرح والتباساته… انخرط فيها ليجعلها فصلاً طويلاً من فصول حياته، ولتجعله فصلاً أطول من تاريخ المسرح.

وداعاً يا صديقي ريمون. وسلامي الى يعقوب الشدراوي، وعصام محفوظ، وأسامة العارف، وشوشو ونبيه أبو الحسن، وفيليب عقيقي:

انقطع الموكب، يا ريمون، فصِلْه بالحياة!