الأب سيمون عساف: أحد توما المسيح قام- حقاً قام/جَاءَ يَسُوع، والأَبْوَابُ مُغْلَقَة، فَوَقَفَ في الوَسَطِ وقَال: أَلسَّلامُ لَكُم ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبَعَكَ إِلى هُنَا وٱنْظُرْ يَدَيَّ وهَاتِ يَدَكَ وضَعْهَا في جَنْبِي ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ كُنْ مؤمناًم

455

أحد توما المسيح قام- حقاً قام
الأب سيمون عساف

جَاءَ يَسُوع، والأَبْوَابُ مُغْلَقَة، فَوَقَفَ في الوَسَطِ وقَال: أَلسَّلامُ لَكُم ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبَعَكَ إِلى هُنَا وٱنْظُرْ يَدَيَّ وهَاتِ يَدَكَ وضَعْهَا في جَنْبِي ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ كُنْ مؤمناً
إنجيل القدّيس يوحنّا20/من26حتى31/”بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّام، كَانَ تَلامِيذُ يَسُوعَ ثَانِيَةً في البَيْت، وتُومَا مَعَهُم. جَاءَ يَسُوع، والأَبْوَابُ مُغْلَقَة، فَوَقَفَ في الوَسَطِ وقَال: «أَلسَّلامُ لَكُم!». ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبَعَكَ إِلى هُنَا، وٱنْظُرْ يَدَيَّ. وهَاتِ يَدَكَ، وضَعْهَا في جَنْبِي. ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ كُنْ مُؤْمِنًا!».أَجَابَ تُومَا وقَالَ لَهُ: «رَبِّي وإِلهِي!». قَالَ لَهُ يَسُوع: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي آمَنْت؟ طُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَوا وآمَنُوا!». وصَنَعَ يَسُوعُ أَمَامَ تَلامِيذِهِ آيَاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةً لَمْ تُدَوَّنْ في هذَا الكِتَاب. وإِنَّمَا دُوِّنَتْ هذِهِ لِكَي تُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ ٱبْنُ ٱلله، ولِكَي تَكُونَ لَكُم، إِذَا آمَنْتُم، الحَيَاةُ بِٱسْمِهِ”.

Although the doors were shut, Jesus came and stood among them and said, ‘Peace be with you.’Then he said to Thomas, ‘Put your finger here and see my hands. Reach out your hand and put it in my side. Do not doubt but believe
Holy Gospel of Jesus Christ according to Saint John 20/26-31: “A week later his disciples were again in the house, and Thomas was with them. Although the doors were shut, Jesus came and stood among them and said, ‘Peace be with you.’Then he said to Thomas, ‘Put your finger here and see my hands. Reach out your hand and put it in my side. Do not doubt but believe.’Thomas answered him, ‘My Lord and my God!’Jesus said to him, ‘Have you believed because you have seen me? Blessed are those who have not seen and yet have come to believe.’Now Jesus did many other signs in the presence of his disciples, which are not written in this book. But these are written so that you may come to believe that Jesus is the Messiah, the Son of God, and that through believing you may have life in his name.”

إِنْ كَانَ أَحَدٌ في المَسِيحِ فَهُوَ خَلْقٌ جَدِيد: لَقَدْ زَالَ القَدِيم، وصَارَ كُلُّ شَيءٍ جَدِيدًا. وكُلُّ شَيءٍ هُوَ مِنَ ٱلله
رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس05/من11حتى21/”يا إخوَتِي، بِمَا أَنَّنَا نَعْرِفُ مَخَافَةَ الرَّبّ، نحُاوِلُ أَنْ نُقْنِعَ النَّاس. وَنَحْنُ مَعْرُوفُون لَدَى ٱلله، ولكِنِّي آمَلُ أَنْ نَكُونَ مَعْرُوفِينَ أَيْضًا في ضَمَائِرِكُم. ولَسْنَا نَعُودُ فَنُوَصِّيكُم بِأَنْفُسِنَا، بَلْ نُعْطِيكُم فُرْصَةً لِلٱفْتَخَارِ بِنَا تُجَاهَ الَّذينَ يَفْتَخِرُونَ بِالمَظْهَرِ لا بِمَا في القَلْب. فإِنْ كُنَّا مَجَانِينَ فَلِله، وإِنْ كُنَّا عُقَلاءَ فَلأَجْلِكُم؛ إِنَّ مَحَبَّةَ المَسِيحِ تَأْسُرُنَا، لأَنَّنَا أَدْرَكْنَا هذَا، وهوَ أَنَّ وَاحِدًا مَاتَ عَنِ الجَمِيع، فَالجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. لَقَدْ مَاتَ عَنِ الجَمِيع، لِكَي لا يَحْيَا ٱلأَحْيَاءُ مِنْ بَعْدُ لأَنْفُسِهِم، بَلْ لِلَّذي مَاتَ عَنْهُم وقَامَ مِن أَجْلِهِم. إِذًا فَمُنْذُ الآنَ نَحْنُ لا نَعْرِفُ أَحَدًا مَعْرِفَةً بَشَرِيَّة، وإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا المَسِيحَ مَعْرِفَةً بَشَرِيَّة، فَالآنَ مَا عُدْنَا نَعْرِفُهُ كَذَلِكَ. إِذًا، إِنْ كَانَ أَحَدٌ في المَسِيحِ فَهُوَ خَلْقٌ جَدِيد: لَقَدْ زَالَ القَدِيم، وصَارَ كُلُّ شَيءٍ جَدِيدًا. وكُلُّ شَيءٍ هُوَ مِنَ ٱلله، الَّذي صَالَحَنَا مَعَ نَفْسِهِ بِالمَسِيح، وأَعْطَانَا خِدْمَةَ المُصَالَحَة؛ لأَنَّ ٱللهَ صَالَحَ العَالَمَ مَعَ نَفْسِهِ بِالمَسِيح، ولَمْ يُحَاسِبِ ٱلنَّاسَ عَلى زَلاَّتِهِم، وأَوْدَعَنَا كَلِمَةَ المُصَالَحَة. إِذًا فَنَحْنُ سُفَرَاءُ ٱلمَسِيح، وكَأَنَّ ٱللهَ نَفْسَهُ يَدْعُوكُم بِوَاسِطَتِنَا. فَنَسْأَلُكُم بِٱسْمِ المَسِيح: تَصَالَحُوا مَعَ ٱلله! إِنَّ الَّذي مَا عَرَفَ الخَطِيئَة، جَعَلَهُ ٱللهُ خَطِيئَةً مِنْ أَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ فِيهِ بِرَّ ٱلله.”

I hope that we are also well known to your consciences.
Second Letter to the Corinthians 05/11-21: “Therefore, knowing the fear of the Lord, we try to persuade others; but we ourselves are well known to God, and I hope that we are also well known to your consciences. We are not commending ourselves to you again, but giving you an opportunity to boast about us, so that you may be able to answer those who boast in outward appearance and not in the heart. For if we are beside ourselves, it is for God; if we are in our right mind, it is for you. For the love of Christ urges us on, because we are convinced that one has died for all; therefore all have died. And he died for all, so that those who live might live no longer for themselves, but for him who died and was raised for them. From now on, therefore, we regard no one from a human point of view; even though we once knew Christ from a human point of view, we know him no longer in that way. So if anyone is in Christ, there is a new creation: everything old has passed away; see, everything has become new! All this is from God, who reconciled us to himself through Christ, and has given us the ministry of reconciliation; that is, in Christ God was reconciling the world to himself, not counting their trespasses against them, and entrusting the message of reconciliation to us. So we are ambassadors for Christ, since God is making his appeal through us; we entreat you on behalf of Christ, be reconciled to God. For our sake he made him to be sin who knew no sin, so that in him we might become the righteousness of God.”

أحد توما المسيح قام- حقاً قام
الأب سيمون عساف
ثمانية أيام مضت على خبر القيامة بتوكيدات وشهادات من ملائكة و شهود عيان كثيرين : المجدلية والنسوة وتلميذا عمواس والأحد عشر. وبالرغم من ذلك بقي توما وحده مصمم على عدم قبول القيامة إلا بشروطه الخاصة. وعلى العموم نحن نجد أن هناك تدرج في الإيمان بالقيامة : الدرجة الأولى : يوحنا يؤمن بدون أن يرى ، يكفيه رؤية الأكفان الموضوعة في القبر الفارغ . الدرجة الثانية : مريم المجدلية تؤمن بالقيامة دون أن تتحقق شخصية الرب، ولكن بمجرد تذكر صوته . الدرجة الثالثة : التلاميذ الأحد عشر ، آمنوا عندما رأوا وجسوا لحمه وعظامه وجروحه. الدرجة الرابعة : توما ، بعد أن استوفى لنفسه شرط الإيمان بوضع أصبعه في الجروح . ثم أخيراً: الدرجة فوق الأولى : وهي التي أعطى لها الرب الطوبى، وهي إيمان الذين صدقوا القيامة بالخبر وحسب.
الإنجيل لم يذكر لنا حادثة توما هذه المخجلة لكي يحط من قدر توما ؛ بل لكي يوضح صعوبة الإيمان بالقيامة. فأصبح الإيمان بها يحفه القبول من اليمين بالمديح ، كما يحفه الشك من الشمال بالتوبيخ . أما الطوبي ، أي السعادة ، فهي نصيب الذين يؤمنون ولا يطلبون شهادة العيان ، لأن الحق يضيء قلوبهم. إذا ، فرواية توما لا تخص توما ، بل هي حدثت لتكون ركناً ركيناً في استعلان شخص المخلص، كجزء حي في درجات سلم استعلان قيامة المسيح، كطوق نجاة للذين ستعصف بكم شكوك مثل شكوك توما!
وق . يوحنا يقدم لنا رواية توما على التوازي مع رواية تلميذي عمواس التي قدمها القديس لوقا. و كل من الروايتين حظت بظهور الرب . وكل منهما حظي بالتوبيخ المناسب.
« قد رأينا الرب »
نفس ما قالته المجدلية : « قد رأيت الرب » .
لم تقع هذه البشارة المفرحة عند توما موقع التصديق ، وذلك عن قصد من النعمة ، ليكون أباً ومرشداً لكل الذين صاروا بعقولهم قوامین علی قلوبهم ، ومدوا أيديهم وأصابعهم عوض البصيرة ليتحسسوا بها طريق الحق . لقد صار توما في تاريخ الإيمان إمام الشكاكين . ويا ليت كل من يشك ، ينطق بالنهاية بما نطق به توما.
لقد وقف توما على قمة الشكاكين مصمماً على حتمية أن تكون القيامة بنفس الجسد الذي تمزق على الصليب ، وأن يكون على مستوى لمس اليد ووضع الأصبع في نفس الجرح النافذ و في نفس الجنب المطعون. توما ولكن لأن القيامة التي قامها الرب هي قيامة حقيقية بالجسد الميت فعلاً؛ لذلك لم يمانع الرب أبداً من تحقيق شرط توما وظهر له خصيصا ليكمل له إيمانه هذا. فصار إيمان توما واعترافه المفاجئ : « ربي وإلهي » البرهان الأخير إزاء كل شكوك بأن المسيح قام حقاً، وبأنه قام بجسده الذي تمزق على الصليب هو هو.
فقال لهم : إن لم أبصر في يديه أثر المسامير ، وأضع إصبعي يدي في جنبه لا أومن».
جروح الصليب مميتة ، فكيف تصبح علامة حياة ؟ إنه تعجيز ! ولكنها هي حقا معجزة ! توما يطلب المستحيل بالعيان واللمس ، يطلب اقتران الموت بالحياة و الحياة بالموت ، فكان له ما شاء ! إنها حقاً القيامة!
توما أراد أن يمسك بنار اللاهوت ، فمسك ولم يحترق . توما أراد أن يُمثل بیده طعنة الحربة . إن أهوال الصليب ضيعت من عقل توما كل معقولية الحياة من بعد الموت ، لقد أصابت المسامير فکر توما بأكثر مما أصابت به يد الفادي. الفادي قام ويداه في ملء الحركة والحياة ، وفکر توما تسمر بالموت وبقي بلا حراك. الجنب المفتوح بالحربة صار کهوة في إيمان توما، تفصل الميت عن الحياة ، مع أن الدم والماء النازفين منه ، كفيلان بأن يحييا كل الأموات.
« لا أومن » ..
لقد جازف توما بكل إيمانه ، لقد وضع إيمانه بالمسيح قائماً من الموت في كفة، ورؤية عينيه ولمس يده لآثار المسامير وطعنة الحربة في الكفة المقابلة! لقد ظن توما أن الإيمان بالقيامة رهن نظر العين ولمس اليد.
ولكن المسيح نفسه عندما ظهر للتلاميذ المجتمعين « أراهم يديه وجنبه » ، فتوما وإن كان يطالب بحقه الرسولي ، کتلميذ له ، في الرب المُقام ؛ إلا أن ما كان ينقص توما حقاً والذي وبخه المسيح على فقدانه ، فهو الإيمان : « ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام » ..
« فجاء يسوع والأبواب مغلقة ، ووقف في الوسط».
كان هناك نوع من الترقب لمجيء يسوع . فمن أسبوع كان التلاميذ قد حازوا على عطية الروح القدس الكفيل أن يُشعرهم ” بالأمور الآتية ” وخاصة فيما للرب ومجيئه. جاء يسوع ووقف « في الوسط » ، صحيح أنه جاء خصيصاً لتوما ، ولكن حينما ظهر كان ظهوره للجميع والجميع له . ليس كبير أو صغير بينهم ، فالكل فيه كبير ، والكل فيه كريم ومُکرم.
“وقال سلام لكم “.
ليست هي مجرد تحية ، ولكنها وديعة يستودعها الرب لكنيسته «سلامي أعطيكم» ، فالرب لا يُقرئ السلام ، بل يعطيه ، بل يسكبه ويُبثه فينا بثاً ، ليسري في القلوب والأفكار والأرواح، ليبقى ويدوم ويترسخ داخل النفس ، تلتجئ إليه يوم العاصف فتجده ، وتستغيث به في الضيقة فتتسربل به.
“ثم قال لتوما : هات إصبعك إلى هنا ، وأبصر يدي ، وهات يدك وضعها في جنبي ، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً”.
عجيب أن الرب يعيد نفس الكلمات التي نطق بها توما وهو يتحدث مع زملائه ، فكأن الرب كان واقفاً يستمع إلى شروط توما المغلظة ، لم يعاتبه ولا حتى آخذه ، بل بلطف يفوق كل لطف ، أخضع جسده الذي ترتعب منه الأجناد السماوية لرؤية عين توما وللمس أصابعه . عرَّی جروحه ، وجعل جنبه المفتوح في متناول يده . وهكذا احتفظ الرب بعلامات الموت ليجعلها برهان الحياة ، وجعل آثار الذلة والانسحاق لتكون هي هي أسباب المجد.
ولكن تُرى ماذا كان وقع كلمات الرب على توما، حينما ردد الرب المُقام على مسامعه كل الكلام والشروط التي قالها للتلاميذ؟! أعتقد أنها فوق أنها أخجلته ، فقد جعلته في غير حاجة لأن يمد يده أو إصبعه. ولكن حين مدها وحينما لمس إطاعة للأمر الذي صدر له، كان قد بلغ الإيمان في قلبه حد الصراخ والشهادة. خبرة العين الروحية ابتلعت خبرة عين الجسد ، ولمسة الروح في القلب طغت على لمسة اليد.
« لا تكن غير مؤمن ، بل مؤمناً »
لم يكن توما غير مؤمن ، وإلا لو كان فعلاً هكذا ؛ أي غير مؤمن ، لما ظهر له الرب على الإطلاق . ولكن لما استبد به الشك ، كونه استُثني من رؤية الرب ، كان يطلب حقه في الرؤية العينية، إمعانا في الوثوق الذي يطلبه . معنی أن توما كان في طريقه إلى الإيمان في حالة حصوله على ما احتاجه إيمانه: « أؤمن ، یا سیدي ، فأعن عدم إيماني ».
الرب تنازل إلى مستوى شروط توما ، ليقطع على كل توما ، وعلى كل من يذهب مذهبه الطريق إلى عدم الإيمان.
« أجاب توما ، وقال : ربي وإلهي »
هذه هي قمة الاستعلانات، بل هي قمة إنجيل يوحنا . والذي يزيد من قيمة هذا الاستعلان الذي استلهمه توما من رؤية الرب المُقام ، أنه جاء بعد أسبوع كامل من عذاب الشك وليل الظنون. فهو ، إن كان قد تأخر عن التلاميذ ثمانية أيام في التعرف على القيامة وتصديقها ؛ إلا أنه سجل للكنيسة أول اعتراف علني بألوهية المسيح، خرج منه بتلقائية تعبر عن الحق الذي رآه كاعتراف إيمان بلغ الذروة ، ليس في كل الأناجيل ما يضاهيه.
إن ظهور الرب بحال قيامته كان كفيلاً بأن يُغير لا فكر توما بل روحه وحياته. إن ظهور الرب قوة ، فالقيامة هي المجال الإلهي الفائق ، الذي إذا دخله الإنسان يفقد رؤيته لنفسه والعالم ، وكأنها أقنعة ، يخلعها ليرى الحقيقة الدائمة ، ولا يعود يرى نفسه إلا في الله : ” ربي وإلهي “.
إنه يرى نفسه فيه ، ويراه هو في نفسه ، وكأنه يردد بلسان عروس النشيد : « أنا لحبيبي وحبيبي لي » . لقد صار له المسيح وصار هو للمسيح ، فاستعلن له المسيح في ذاته رباً وإلهاً. لقد تعرف على الله في المسيح ، وتعرف على المسيح في الله . وأخيراً ، أدرك توما أن المسيح ليس للمس اليد أو نظر العين !! فهو الملء الذي يملا الروح والبصيرة والقلب ، الذي لا تسعفه عين ولا يحيطه فکر.
“قال له يسوع : لأنك رأيتني يا توما ، آمنت . طوبى للذين آمنوا ولم يروا “
لقد أمَّن المسيح على اعتراف وإيمان توما : « ربي وإلهي » ، ووافقة على إعلانه بلاهوته . فلو لم يكن المسيح إلهاً بالحقيقة ما كان قد ارتضى بهذا الإعلان . لقد رأي توما المسيح كما يريد المسيح أن يُرى .
وهنا ظهرت رنة التوبيخ والعتاب في صوت المسيح لتوما ، لأنه ما كان لائقاً بتلميذ عاشر الرب وسمع منه أنباء القيامة العتيدة ، بل ورأى قوتها عياناً عند قبر لعازر ، ثم بعد ذلك لا يؤمن ، ولا يصدق من رأى وآمن .
ولكن شكرا لك ، أيها القديس توما ، لأن بشكك ورثتنا الطوبي ، بل أحسن الطوبي : « .. الذي وإن لم تروه تحبونه . ذلك ، وإن کنتم لا ترونه الآن ، لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به و مجید » .
القديس مار إغناطيوس النّوراني او الأنطاكي (107+)
تمهيد:
تُعدّ ترجمة حياة مار إغناطيوس النوراني، بطريرك أنطاكية الثالث، أقدم تاريخ بيعي بعد أسفار الكتاب المقدس. دوّنها من رافقه إلى رومية حيث نال إكليل الشهادة، كما أن الرسائل السبع التي كتبها وبعث بها إلى بعض الكنائس وإلى زميله بوليكربوس أسقف أزمير تلي الأسفار المقدسة أهمية في الكنيسة المسيحية من النواحي الروحية والعقائدية والشرعية والتاريخية.
أصله:
هو سرياني الأصل على رأي أغلب المؤرخين الثقات ويظن أنه ولد حوالي سنة 35م ويقول المؤرخ تيلمون في معرض كلامه عن رسائله: «إن إنشاء القديس (إغناطيوس) يتبع حركات حرارته أكثر من أصول النحو، ويظهر أن لسانه لم يكن يكفي للتعبير عن جلائل أفكاره. وفي هذا نرى سمواً، ناراً، وقوة، وجمالاً روحياً. لم يكن عاماً أبداً، حتى ارتاب فيها بعض العلماء وقالوا هل هذه الرسائل البديعة هي من يراعة صدر النصرانية؟ كلها ملأى عواطف وهي إحساسات عميقة تقتضي التأمل فيها لكي تعرف وتفهم جيداً. وأنّا نجد في إنشائه من المزايا ما يدعونا للاعتقاد بأنه سرياني المنبت أكثر منه يونانياً. فإن فوسيوس يلاحظ منها سجية السريان في امتداد حبل الصفات ووفور النعوت»
أسماؤه:
تنصر إغناطيوس في أنطاكية، وتتلمذ على أيدي الرسولين مار بطرس في أنطاكية ومار يوحنا في آسيا الصغرى. وبالإضافة إلى اسمه الأصيل (إغناطيوس) وهو باللغة اللاتينية، وقد ترجم إلى السريانية فصار «نورونو» أي النوراني، اتّخذ له اسماً حقيقياً آخر هو (ثاوفوروس) ومعناه (حامل اللـه)، وإذا حوّرت هذه اللفظة اليونانية يصير معناها (الذي حمله اللـه). من هنا جاء رأي بعضهم أن القديس مار إغناطيوس كان أحد الأطفال الذين احتضنهم الرب يسوع ليعطي رسله الأطهار مثالاً للتواضع المسيحي حيث قال لهم: «الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت18: 1 ـ 4 ولو9: 46 ـ 49)، أما مار يوحنا الذهبي الفم (407+) فيؤكد أن مار إغناطيوس لم يرَ الرب يسوع في الجسد قط، إنما كان تلميذ الرسولين بطرس ويوحنا.
وسمّى يوحنا الصوّام أسقف القسطنطينية في آخر القرن السادس، مار إغناطيوس (بيت اللّـه ومسكنه) ومن هنا جاءت الخرافة التي دسّت قصته لدى اللاتين الذين زعموا أن قلبه كان بعد وفاته متقطعاً ووجد فيه اسم «يسوع المسيح» مكتوباً بأحرف ذهبية، الأمر الذي يرفض جملةً وتفصيلاً لأنه يخالف الواقع التاريخي الذي يؤكد أنه لم يفضل من جثمانه الطاهر بعد استشهاده إلا أغلظ العظام.
تسقّفه على أنطاكية:
قال أوسابيوس القيصري (340+) في تاريخه الكنسي: «كما اشتهر أيضاً إغناطيوس الذي اختير أسقفاً لأنطاكية خلفاً لبطرس والذي ما تزال شهرته ذائعة بين الكثيرين» وارتأى بعض المؤرخين أنّ ظروف الكنيسة في أنطاكية قضت بأن يسام أفوديوس على المسيحيين الذين من أصل أممي وثني. ذلك أن اليهود المتنصرين كانوا إلى ذلك الزمن يمارسون بعض الفرائض التي تقتضيها شريعة موسى. فرئس أفوديوس وإغناطيوس معاً في أنطاكية حتى انتقال أفوديوس إلى الخدور العلوية، فوحد إغناطيوس الفريقين، وأطلق على الكنيسة صفة (الجامعة). وهو أول من استعمل هذه اللفظة كنعت للكنيسة المسيحية.
ذكر مار يوحنا الذهبي الفم (407+) أن مار إغناطيوس رسم أسقفاً على أنطاكية بأيدي الرسل وخاصة مار بطرس ومار بولس. وأما أوسابيوس القيصري (340+) فيعين تاريخ تسقف مار إغناطيوس إلى أنطاكية سنة 68م أي بعد استشهاد الرسولين مار بطرس ومار بولس، ويجعل مار أفوديوس أول أسقف لأنطاكية بعد الرسول بطرس. وللتوفيق بين الرأيين يرى بعضهم أن أوسابيوس أخطأ بتعيين تاريخ تسقف مار إغناطيوس، أو أن رسامته وأفوديوس أسقفين على أنطاكية تمت في آن واحد، كما ذكرنا، فصحَّ اعتبار مار إغناطيوس خليفة مار بطرس الرسول ومار أفوديوس في آن واحد.
مار أفوديوس بطريرك أنطاكية الثاني:
وهكذا يعتبر مار أفوديوس أول خليفة للرسول بطرس على الكرسي الرسولي الأنطاكي، ويعيّن أوسابيوس (340+) بدء رئاسته سنة 43، وقد سكت المؤرخون القدامى عن تفصيل ترجمة حياته، وينظّمه بعضهم في صف السبعين تلميذاً، ويسمونه رسولاً، ويعيّدون له، ويعتبره آخرون شهيداً، نال إكليل الشهادة في آخر عهد نيرون ويقول آخرون: إنه مات حتف أنفه. وينسب إليه كتاب يدعى (النور‎) وضع على شكل رسالة وهو مفقود، ولا يُعرف مضمونه.
مار إغناطيوس الأسقف وحالة الكنيسة على عهده:
في رسالته إلى رومية، يسمي مار إغناطيوس نفسه أسقف سورية. ذلك أن أنطاكية كانت عاصمة سورية القديمة.
كانت مهمة الأسقف صعبة جداً، في الظروف القاسية التي كانت كنيسة أنطاكية تجتازها عصرئذ. وكان مار إغناطيوس يترجم بالعمل ما كتبه بعدئذ إلى زميله الأسقف بوليكربوس في موضوع رسالة الأسقف قائلاً، ومعناه: «اعرف سمو مركزك واحرص على سير الأمور الزمنية والروحية، بصورة صحيحة (في الكنيسة). اهتم بوحدة (الرأي) فالوحدة من أعظم النعم. ساعد الجميع كما يساعدك الرب وتحملهم بمحبة. واظب على الصلاة واسأل اللّـه ليهبك باستمرار حكمة. كن يقظاً ولا تدع عقلك يغفو وينام أبداً. كن دائماً وفي كل الأمور حكيماً كالحية ووديعاً كالحمامة (مت10: 16) لا يضطرب قلبك وأنت تجابه أهل البدع والأضاليل… اثبت كالسندان تحت المطرقة… لا تهمل الأرامل بل اعتن بهنّ لأنك سندهن، بعد اللـه، إن المصارع البارع ينتصر في النهاية برغم ما تصيبه من ضربات قاسية، فكم بالحري يجب علينا أن نتحمل كل شيء في سبيل اللّـه كي يتحملنا بدوره، ضاعف الغيرة، ميّز، الأزمنة، ولا تسمح أن يجري شيء (في الكنيسة) بدون إذن منك. ولا تقدم على شيء بدون الرب الإله، لا تزدر بالعبيد، اهرب من الأعمال القبيحة، وأشهر حربك عليها» هذا ما كان يمارسه مار إغناطيوس في خدمته للكنيسة كأسقف. محارباً الخرافات والأضاليل اليهودية والوثنية، التي حاول بعضهم دسّها في صلب العقائد المسيحية، كما ناهض البدع والهرطقات العديدة التي ولدت الشكوك بضلالتها، وحاولت عرقلة مسيرة نشر البشارة الإنجيلية.
كانت السلطة الرومانية تتحيّن الفرص للإيقاع بأتباع السيد المسيح وقد استشهد عدد هائل منهم في اضطهادات أثارها ضدهم القياصرة الرومان، ذلك أن التنكّر لدين الدولة، كان لدى الرومان واليونان، يعادل التآمر مع أعدائها، وبالتالي فهو التورط في الخيانة العظمى للوطن. وكان المسيحيون يعرفون جيداً أن عبادتهم الرب يسوع كانت تتنافى كل التنافي مع مطالب الحكومة الرومانية من كل مواطن بأن يعبد الإمبراطور الروماني وكانت الدولة الرومانية على أثر اتساع رقعة استعماراتها قد اعترفت بآلهة الشعوب الداخلية في حكمها، واعتبرت الدين اليهودي ديناً شرعياً لليهود الذين لهم حريتهم باعتقادهم باله واحد. واعتبرت المسيحية فرقة من فرق اليهود. ولكن اليهود أبَوا أن يشاركهم المسيحيون الامتيازات التي يتمتعون بها، فأعلنوا للدولة أن المسيحيين ليسوا يهوداً، فزادت شكوك الدولة بنيات المسيحيين وكراهيتها لهم وأخذت تدوّن أسماءهم، مفتشة عن زعمائهم لاسيما لما جبى الإمبراطور دمطيانوس (81 ـ 96) ضريبة الهيكل من اليهود، وأكره المسيحيين أيضاً على دفع هذه الضريبة وإرسالها إلى صندوق رومة. فأقلقت هذه الترتيبات بال القديس مار إغناطيوس وقضّت مضجعه لأن عدد المسيحيين كان آخذاً بالازدياد في سورية، وكان عددهم في أنطاكية وحدها قد بلغ نحو مئتي ألف نسمة وكانت المقاومة للمسيحية قد أخذت أشكالاً عامة من عداوة شعبية وحملات فكرية واضطهاد جسماني وكان مار إغناطيوس يكثر من الصلاة والصوم طالباً إلى اللّـه تعالى أن يخفف الشدة عن المؤمنين، وأن يهبهم نعمة الصبر ليتحملوا صنوف العذاب في سبيل الإيمان، وكي يكونوا مستعدين لتقبل إكليل الشهادة حباً بالمسيح يسوع ربنا، وكان مار إغناطيوس ذاته، إبان اضطهاد دومطيانوس، توّاقاً إلى نيل إكليل الشهادة ليحظى بالحياة الأبدية مع الرب يسوع.
ولما هلك دومطيانوس هدأت عاصفة الاضطهاد على عهد نرفا (96 ـ 98) الذي ارتقى عرش الإمبراطورية وهو طاعن في السن، وأبطل اضطهاد المسيحيين، فتنفست الكنيسة الصعداء فترة قصيرة من الزمن، ولكن لما ملك الامبراطور تراجانوس (98 ـ 117) وكان يبغض أتباع الرب يسوع بغضاً شديداً، كابد المسيحيون في أيامه ما كابدوه في أيام نيرون (54 ـ 68) ودومطيانوس (81 ـ 96) فقد وافق تراجانوس على تنفيذ قانون نيرون الذي يعتبر التمسك بالدين المسيحي خروجاً على القانون، وتميّز الاضطهاد الذي أثاره على المسيحية في تشديد الخناق على قادتها الروحيين. فاستشهد العديد منهم في أماكن شتى. فصلب سمعان أسقف أورشليم وقتل كرزونوس أسقف الإسكندرية وألقى إغناطيوس أسقف أنطاكية إلى الأسود، كما سنرى. وربط عنق أكليمنضس أسقف روما بمرساة وطرح في البحر. ويرى الذهبي الفم (407+) أن إبليس وهو يهاجم الأساقفة في شدة تراجانوس، كان يحاول تثبيط عزيمتهم باقتيادهم إلى أبعد المواضع ليعانوا عذاباً أقسى وهم يجدون أنفسهم يجاهدون منفردين بعيدين عن أبنائهم الروحين، وصفر من التشجيع والتعزية ولكن خاب ظن إبليس وأتباعه فقد أظهر الآباء الروحيون وكذلك سائر المؤمنين، بطولات روحية عميقة، كانت خير وازع لتشديد الضعفاء وجذب الغرباء إلى حظيرة المسيح فصّح القول «إن دم الشهداء بذار الإيمان».
ومما يذكر بهذا الصدد أن بلينوس سكندس حاكم بيثينية وهو من أشهر الولاة في زمانه، أزعجته كثرة عدد الشهداء، ذلك أنه حكم على بعض المسيحيين بالموت وحرم البعض من حقوقهم المدنية، فثارت عليه الجماهير، فارتبك، وكتب إلى الامبراطور تراجانوس يستشيره، وأخبره في رسالته بوضوح عن العدد الوفير من المسيحيين الذين تقدموا إلى نيل إكليل الشهادة بفرح معترفين بإيمانهم، يطلب إليه ليعرّفه عما يجب اتخاذه في هذه الحالة، وما قاله في رسالته: «إنني لم أجد في المسيحيين ما يستوجب القتل، ولم أجد فيهم شيئاً مشيناً، أو مخالفاً لشريعة المملكة سوى أنهم يستيقظون باكراً، ويرتلون بعض الترانيم للمسيح ربهم. ومع هذا فهم يحرمون الزنى والقتل وأمثالهما من الجرائم الأخلاقية ويفعلون كل شيء وفق الشرائع» وأضاف قائلاً: «إن عدد المسيحيين كثير في كل مدن بيثينية وقراها، وإنه لا يعرف كيف يتصرف معهم». فأجابه تراجانوس: «بألا يجري التفتيش على المسيحيين كما كانت العادة في زمن أسلافه، بل عندما يؤتى إليك بأناس منهم، اسألهم إن كانوا بالحقيقة كذلك، فإن أجابوا بالإيجاب، تهددهم بالقتل، وان أصروا على أنهم خدام المسيح اقتلهم. وان أنكروا إيمانهم وذبحوا للأوثان، أطلقهم». ومن ذلك الوقت لم يَعد الاضطهاد على المسيحيين عنيفاً، ولكنهم لم يكونوا آمنين على أنفسهم ذلك أنّ أعداءهم، من الحكام والشعب، كانوا يتحينون الفرص للإيقاع بهم بتوجيه التهم إليهم بمخالفة الشريعة فيحكم عليهم بالموت، بعد أن يساموا صنوف العذاب، وبهذه الصورة حصلت اضطهادات محلية في مقاطعات عديدة واستشهد عدد هائل من المؤمنين حباً بالمسيح يسوع.
الحكم على مار إغناطيوس بالموت:
وُشي بالأسقف إغناطيوس إلى حاكم أنطاكية بأنه زعيم المسيحيين وقد جذب عدداً كبيراً من اليهود والوثنيين إلى حظيرة المسيح، فاستقدمه الحاكم، واستجوبه، فاعترف القديس إغناطيوس بالإيمان بشجاعة فائقة، فحكم عليه بأن يساق إلى رومية ويُطرح هناك للوحوش الضارية لتفترسه.
وهناك رواية تقول: إن الحكم على مار إغناطيوس بالموت صدر مباشرة من الامبراطور تراجانوس وهي السنة 106 وقد تعجرف جداً لما حازه من الغلبة في العام الماضي على الداقييين والسكيثيين(هم شعب بدوي متنقل ينحدر من أصول إيرانية وهم من مملكة سيثيا) وغيرهم من الأمم، أثار الاضطهاد الشديد على المسيحيين لجذبهم لعبادة الأبالسة، وأخذ يهدد الأساقفة خاصة بالموت الزؤام ما لم يقدموا الذبائح للأوثان. وبرح رومية في تشرين الأول من عام 106، واجتاز أرمينية الصغرى، وبلغ سلوقية في كانون الأول، ودخل أنطاكية يوم الخميس سابع يوم من كانون الثاني من السنة 107، ووشي إليه بأسقفها البار مار إغناطيوس، فاستدعاه، فأسرع القديس بالمثول أمامه لعله يفدي بنفسه رعيته ويجنبها الشدة. وسأله الإمبراطور قائلا: من أنت أيها الروح الشرير حتى تعصي أوامرنا وتحث الناس أيضاً على عصيانها؟.
فأجاب القديس مار إغناطيوس قائلاً: لا يسمي أحداً ثاوفوروس روحاً شريرة لأن الأرواح الشريرة تهرب من أمام خدام اللـه.
قال الإمبراطور: ما معنى ثاوفورس؟
أجاب القديس: الحامل اللّـه في قلبه.
قال الامبراطور: من يكون هذا الذي يحمل اللّـه في قلبه؟
أجاب القديس: إن كل من يؤمن باللّـه الآب وبابنه الوحيد يسوع المسيح، وبروحه القدوس، الإله الواحد، ويعمل الصلاح لأجل اللّـه وحباً به تعالى، فهو يحمل اللّـه في قلبه.
قال الإمبراطور: إذن أنت تحمل اللـه!؟
أجاب القديس: نعم أنا احمل اللّـه في قلبي، لأن ربنا يسوع المسيح وعدنا بقوله: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي… واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً (يو14: 21 و23).
قال الإمبراطور: نحن أيضاً نحمل آلهتنا معنا في الحروب لتحارب عنا فنظفر بأعدائنا.
قال القديس: لا يمكن للأصنام عديمة الحس أن تكون آلهة.
قال الإمبراطور: دع عنك هذا الكلام واذبح للأصنام التي هي آلهتنا، فتظفر مني بالعطايا الفاخرة، وأجعل منك عظيم أحبار ديانتنا.
قال القديس: زادك اللّـه من غناه أيها الامبراطور الموقر، أنا خادم سيدي يسوع المسيح، وعبده، وكاهنه، وله وحده أقدم ذبائح الشكر، بل أنا على أتمّ الاستعداد لأقدم ذاتي ضحية على مذبح محبته.
ولما سمع الإمبراطور تراجانوس أجوبة القديس مار إغناطيوس استشاط غضباً وأصدر حكمه عليه بالموت، وأمر أن يكبل بالقيود الثقيلة ويساق إلى رومية حيث يطرح للوحوش الضارية في احتفالات الأعياد الوطنية، ليبتهج الشعب بمشاهدة الوحوش الشرسة وهي تفترسه بنهم، لعله يصير عبرة للآخرين فيقدمون الذبائح للأوثان.
فلما سمع القديس قرار الامبراطور، انبسطت أساريره وهش وبش، وقبّل الأغلال التي قيد بها، وهو يقول، أحمدك اللهم لأنك شهادة محبتي الكاملة لك، شرفتني أن أصفد بالأغلال الحديدية الثقيلة، مثل الرسول بولس صفيّك. وكل ما أتمناه الآن أن تسمح بأن تمزقني الوحوش سريعاً لأصل إليك… ثم صلى بدموع سخية لأجل كنيسة أنطاكية التي ساسها أربعين سنة، فلما شعر المؤمنون بذلك أسرعوا أفواجاً باكين، ومتبركين منه، مودعين إياه.
يشك بعض المؤرخين بصحة رواية محاكمة مار إغناطيوس أمام الامبراطور تراجانوس في أنطاكية. ذلك أن أوسابيوس القيصري (340+) ويوحنا فم الذهب (407+) يذكران أن القديس إغناطيوس حوكم أمام حاكم أنطاكية وليس الامبراطور. وبما أن الرواية تقول أن الامبراطور تراجانوس ذهب إلى أنطاكية لمناسبة الحرب الفرثية، وتعين تاريخ هذه الحرب في السنة 107 ويظهر لنا التناقض بمجرى حوادثها أنّ تلك الحروب وقعت بين السنتين 115 ـ 117 لا قبل ذلك فيكون شكوك بعض المؤرخين بصحتها هي في مكانها، لأننا حتى لو أخرنا تاريخ استشهاد مار إغناطيوس إلى السنة 110 كما يفعل بعضهم، فإننا لا نستطيع أن نوفّق بين حادثة الاستشهاد وزيارة تراجانوس لأنطاكية، فالرواية مليئة بالتناقضات مما يدل على أنها موضوعة.
في الطريق إلى رومية:
كانت مسيرة مار إغناطيوس من أنطاكية إلى رومية مسيرة مجد وسؤدد للمسيحية المضطهدة المتعبة، في مستهل القرن الثاني للميلاد، كما يعد استشهاده من أهم حوادث التاريخ في ذلك الزمن.
غادر الأسقف إغناطيوس أنطاكية سالكاً طريق البر، على رأي بعضهم، وعبر آسيا الصغرى، مجتازاً أماكن شتى التقى فيها المؤمنين حتى وصل إلى ازمير، وكان يخفره عشرة جنود قساة، أوكلوا مهمة توصيله إلى رومية، بلغوا من القسوة والشراسة درجة كبيرة حتى أنّ القديس يسميهم فهوداً، فإنهم قد أساؤوا معاملته بقدر ما أحسن إليهم.
يقول أوسابيوس القيصري (340+): «وفي أثناء رحلته وسط آسيا وكان تحت حراسة عسكرية شديدة، كان يشدد الكنائس في المدن المختلفة حيثما حطّ رحاله، وذلك بعظات ونصائح شفوية. وكان فوق كل شيء يحثّهم ليحترسوا أشد الاحتراس من الهرطقات التي كانت قد بدأت تنتشر وقتئذ وينصحهم للتمسك بتقاليد الرسل. وكان علاوة على هذا يراه من الضروري أن يدعم تلك التقاليد بأدلة يكتبها، وأن يعطيها شكلاً ثابتاً ضماناً لسلامتها».
ولما وصل إلى أزمير هرعت لاستقباله، والتبرك به، أساقفة مغنيزيا، وأفسس، وفيلادلفيا في وفود كنائسهم التي ضمت كهنة وشمامسة ومؤمنين ومؤمنات.
وارتأى بعضهم أن الجند أخذوا مار إغناطيوس في طريق البحر، فبعدما غادروا أنطاكية إلى سلوقية التي على مصب العاصي جاؤوا إلى مرفأ قيليقية أو بمفيلية، وأركبوه سفينة مخرت بهم عباب اليم بمحاذاة السواحل الآسيوية، حتى وصلوا إلى أزمير. وهناك هرع المؤمنون من كل حدب وصوب للتبرك منه ورافقه الكثيرون منهم إلى رومة، كما تقدمه مسيحيون من أنطاكية وغيرها في طريق أقصر وتوجهوا إلى رومة لينتظروه هناك.
وكان برفقته الشماس أغاثوده من سورية والشماس فيلون من قيليقية، وإذ كان مار إغناطيوس مكبلاً بالقيود ولا يقوى على الكتابة استكتب الشماس فيلون كما كان هذا أيضاً يسعف القديس في الوعظ.
يقول مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق (1286+) في كتابه تاريخ البطاركة ما يأتي: «أُسِر مار إغناطيوس في أنطاكية، وأرسل إلى رومية وفي طريقه ثبت في الإيمان المؤمنين الذين التقوه وكان يقول: «إني حنطة اللّـه النقية، ولابد أن أطحن بأنياب الوحوش الضارية، لأصير خبزاً لذيذاً يقدم على المائدة السماوية»
ويذكر أيضاً عن القديس مار إغناطيوس انه كان يقول للمؤمنين الذين التقوه في أزمير «إني أرى بينكم شهداء كثيرين فتشددوا يا أحبائي في الإيمان والمحبة» وحثهم على التمسك بتعاليم الرب يسوع وما تسلموه من الرسل الأطهار، وتقديم واجب الطاعة للأسقف ولذوي الرتب الكهنوتية كافة، وان يفتكروا بالحياة الأبدية، ويتجنبوا أهل البدع الخبيثة التي حاول بعض الهراطقة دسها في صلب العقيدة المسيحية السمحة.
بوليكربوس أسقف أزمير (155+)
وفي ازمير التقى مار إغناطيوس أسقفها مار بوليكربوس الذي كان خدينه في التتلمذ على يد القديس يوحنا الإنجيلي، وهنأه بوليكربوس لاستحقاقه نيل إكليل الشهادة الذي تمناه هو لنفسه أيضاً، وقد استجاب الرب طلبة بوليكربوس واستشهد هو الآخر سنة 155م على عهد القيصر انطونينس بيوس(138 ـ 161) ذلك أن والي أزمير أمره أن يجحد السيد المسيح، أثناء الشدة التي أثيرت في المدينة ضد أتباع الرب، فأجابه القديس بوليكربوس: إن لي ستاً وثمانين سنة وأنا أخدم المسيح سيدي فلم أرَ منه إلا خيراً فكيف أنكره؟ فغضب الوالي وقال له: «إن لم تطع فستحرق حياً، فأجاب القديس أما نارك فتحرقني لحظة ثم أحيا إلى الأبد مع سيدي والهي في السماء. فأمر الوالي بحرقه، فدنا من النار وهو يصلي ويرنم مبتسماً مبتهجاً ولكن لم يكن للنار سلطان عليه فلم تؤثر فيه بأعجوبة. فأخبر اليهود الوالي فأمر فطعن بخنجر ففاض من دمه ما أطفأ النار ثم استلّ أحدهم سيفاً وضرب عنقه فنال إكليل الشهادة الذي كان يتوق إليه وذلك سنة 155 وقيل 156 وقد كتب هذا القديس عدة رسائل.
وهو الذي جمع رسائل القديس إغناطيوس، وأرسلها إلى أهل فيلبي مصحوبة برسالة منه إليهم كما سنرى.
رسائل مار إغناطيوس:
وخلال وجود مار إغناطيوس في أزمير كتب أربع رسائل نفيسة جداً وجهها إلى كنائس أفسس، ومغنيزية، وترلّس، ورومية.
وأُركب البحر من أزمير وأقلعت السفينة به وبصحبه، وجيء به إلى طروادة، فبعث من هناك بثلاث رسائل إلى فيلدلفيا وأزمير وأسقفها مار بوليكربوس. وواصلوا السفر، ورغب في أن ينزل في بوتبولي اقتداء بالرسول بولس، ولكن الرياح كانت معاكسة فاضطروا على مواصلة السفر حتى انتهوا إلى ميناء رومية.
وصوله إلى رومة واستشهاده:
في رومة استقبلته وفود الكنائس التي سبقته إلى عاصمة الإمبراطورية لتتبرك منه، وتودّعه الوداع الأخير، وفي مقدمتهم وفد أنطاكية، فودعوه بدموع سخية وقلوب مكلومة، ونفوس حزينة وصلوات حارة، وقاده الجند بسرعة فائقة إلى الكولوسيوم وهو الملعب الكبير والشهير في رومة، حيث كانت الجماهير الغفيرة قد اكتظت منتظرة مشاهدة أسقف أنطاكية يطرح للوحوش قبل انتهاء أعياد انتصار الرومان على الداسيين، تلك الأعياد التي دامت مئة وثلاثة وعشرين يوماً، سقط فيها عشرة آلاف مصارع تسلية للشعب الروماني، واستشهد فيها رفيقا مار إغناطيوس القديسان زوسيموس وروفس اللذان طرحا للوحوش الضارية في اليوم السابع عشر من شهر تشرين الثاني، وقيل بل في اليوم الثامن عشر من كانون الأول من السنة 107م وبعد يومين أي في العشرين من كانون الأول عُرّي القديس مار إغناطيوس من ثيابه وطرح إلى الوحوش، فجثا على ركبتيه راكعاً يصلي وهو منشرح الصدر منبسط الأسارير فرحاً، فهجمت عليه الوحوش الضارية ومزقته والتهمته ولم تبقِ من جسده الطاهر سوى العظام الخشنة. وكان المؤمنون وهم يشاهدون هذا المنظر الأليم ينتحبون ويتشفعون بالقديس.
رفاته:
ثم جمعوا بإكرام وتبجيل عظامه المقدسة ولفوها بكتان نفيس وأرسلوها إلى أنطاكية برفقة فيلون وأغاثودة الشماسين اللذين رافقاه إلى رومة. ودفنت ذخائره المقدسة في أنطاكية في ضريح لائق خارج باب دفنه، ثم نقلها الامبراطور ثاودورسيوس الصغير (379 ـ 395+) في سنيه الأخيرة إلى كنيسة بنيت في أنطاكية دعيت على اسم الشهيد القديس مار إغناطيوس وفي القرن السابع نقلت رفاته الطاهرة إلى رومية ووضعت في كنيسة الشهيد البابا اكليمنضس.
ظهوره لتلاميذه بعد استشهاده:
ذكر كتبة سيرته أن تلاميذه بعد أن رأوا بأم أعينهم مشهد استشهاده المحزن، عادوا إلى الدار التي كانوا قد حلّوا فيها، وقضوا الليل ساهرين بدموع وصلوات ساجدين راكعين خاشعين طالبين من اللّـه تعالى العزاء وأن يمنحهم علامة وعربوناً أكيداً على ما يعقب موتاً كهذا من المجد. وفي ذعرهم وولههم استولى على بعضهم نعاس فرأوا القديس إغناطيوس داخلاً المكان وكأنه مسرع وهو يعانقهم. ورآه آخرون مصلياً لأجلهم ومباركاً إياهم. كما ظهر طيفه للبعض وهو يتصبّب عرقاً كرجل يخرج من جهاد عنيف شاق، وماثل أمام الرب بثقة عظيمة ومجد فائق الوصف. فتعزوا جداً بهذه الرؤى وانقلب حزنهم فرحاً لما ناله القديس الشهيد من الغبطة في السماء.
مؤلفاته:
عدا رسائله السبع المذكورة آنفاً، نسبت إليه في القرن الرابع، أربع رسائل أخرى موضوعة، وجّه اثنتين منها إلى يوحنا الرسول وواحدة إلى السيدة العذراء مريم والرابعة من السيدة العذراء إليه. وهذه الرسائل مزورة، ولم يذكرها أحد من القدماء.
كما عدّه بعضهم بين الذين ألّفوا نقضاً للهراطقة. ذلك أنه دحض آراءهم الفاسدة في رسائله السبع، دون أن يذكر أسماءهم، وكان همه أن يحثّ المؤمنين ليتجنبوهم وأن يصلّوا لأجلهم لعلهم يعودون إلى اللّـه بالتوبة.
وقد أدخل مار إغناطيوس في كنيسة أنطاكية عادة ترتيل المزامير بين جوقتين أسوة بالملائكة النورانيين الذين ظهروا له برؤيا وانتقلت هذه العادة بعدئذ إلى سائر الكنائس المسيحية.
رسائله:
كتب مار إغناطيوس النوراني، وهو في طريقه من أنطاكية إلى رومة، سبع رسائل نفيسة، بعث بها إلى أهل الإيمان في أفسس، ومغنيزيا، وفيلادلفيا، وأزمير، وإلى زميله بوليكربوس أسقف أزمير. وقد احتلت هذه الرسائل الجليلة مكانتها اللائقة في الكنيسة المسيحية، حتى أنها تلت أسفار كتاب العهد الجديد المقدسة بالأهمية. ذلك أنها تتضمّن أهم مبادئ المسيحية السامية، وعقائدها السمحة التي تسلمتها الكنيسة من رسل الرب الأطهار، أولئك الذين أخذوها عن الفادي الإلهي مباشرة، وحافظوا عليها وصانوها سليمة نقية إذ صانهم الروح القدس، في هذا الشأن، من الخطل والزلل.
فقد كتب الرسول يوحنا إنجيله المقدس في أواخر القرن الأول للميلاد، بعد انتشار بعض الهرطقات الخبيثة التي أثارت حرباً فكرية طاحنة ضد العقائد المسيحية محاولة تشكيك المؤمنين بحقيقة لاهوت السيد المسيح وناسوته، وموته وقيامته، فيتصدى لهم تلميذ المسيح الحبيب، الرسول يوحنا، ويعلن في فاتحة إنجيله المقدس، أزلية ابن اللّـه الوحيد، وسر تجسده الإلهي، بقوله: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللـه، وكان الكلمة اللـه» (يو 1: 1) إلى أن يعلن الناسوت الكامل الذي أخذه منا الكلمة الأزلي قائلاً: «والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 1: 14). ويؤكد هذا في رسالته الأولى قائلا «الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فان الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركةٌ معنا(1يو 1: 1 ـ 3).
وينسج مار إغناطيوس النوراني على منوال معلمه الرسول يوحنا فيدحض، في رسائله السبع، آراء الهراطقة وبدعهم الوخيمة، دون أن يذكر أسماءهم المشينة.
مضمون الرسائل بصورة عامة:
إلى جانب مناهضة الهراطقة، يقدم مار إغناطيوس في رسائله السبع النصح والإرشاد للمؤمنين الذين وجه إليهم هذه الرسائل ليبتعدوا عن النزاعات وأسباب الشقاق، ويأمرهم بالتمسك بالمحبة ووحدة الصفوف والالتفاف حول الأسقف والخضوع له لأنه يمثل اللّـه تعالى في الكنيسة. كما يوصي بتكريم الكهنة والتعاون مع الشمامسة ويوضح درجات الكهنوت الثلاث مما يدل على أن توزيع هذه الدرجات في الكنيسة رسولي المنشأ.
ويحث مار إغناطيوس المؤمنين على المواظبة على الصلاة وخاصة صلاة الجماعة برئاسة الأسقف. والاشتراك بسر الشكر (الأوخارستيا) ويؤكد على وجوب تناول القربان المقدس أي جسد المسيح ودمه الأقدسين لأن تناولهما ضروري للخلاص ولنمو المؤمنين في الحياة الروحية.
رسائله باللغة السريانية:
نقلت رسائل مار إغناطيوس السبع من اليونانية، اللغة التي كتبت بها، إلى السريانية في غضون القرنين الثاني والثالث للميلاد. ويوجد من هذا النقل ثلاث مخطوطات في خزانة لندن كتبت في القرون (6 ـ 9) ومخطوطة لرسالته إلى بوليكربوس في خزانة باريس من القرن التاسع ووجد في باسبرينة في طورعبدين بتركيا الرسائل إلى مغنيزيا، وترلّس، وفيلادلفيا وأسيا (أزمير).
ونقل كورتن من السريانية إلى الانكليزية ثلاث رسائل وهي: إلى بوليكربوس، وأفسس، ورومية، معتمداً بذلك مخطوطات سريانية كتبت الأولى قبل عام 550م والثانية في القرن السابع أو الثامن، والثالثة كتبت سنة 931، ونشر كورتن الترجمة الانكليزية المذكورة عام 1845 بذلك فسح المجال لعلماء الاستشراق ليتناولوا بالدرس هذه الرسائل، آخذين بعين الاعتبار الترجمة السريانية، وكانت نتيجة دراساتهم أن النص السرياني مترجم عن النص اليوناني الأصيل الذي اعتبر النص المختصر، تمييزاً له من النص المطول الذي أضيف إليه زيادات لا تمت إلى الأصل بصلة.
واقتبست الكنيسة السريانية من رسائل مار إغناطيوس السبع، عبارات توجيهية، ووصايا أبوية، أنزلتها منزلة القوانين البيعية المجمعية التي لها سلطة الإلزام على المؤمنين، وقد اعتمدنا بذلك مخطوطة حديثة نسخت عام 1928م عن مخطوطتين نفيستين موجودتين في خزانة دير الزعفران في ماردين ـ تركيا، مكتوبتين على رق يعود تاريخ إحداهما إلى القرنين الثامن والتاسع والثانية إلى القرن العاشر. وقد حققت المخطوطة التي بين يدينا على المخطوطتين المذكورتين وعلى مخطوطة قديمة للقس دانيال، وفي كل هذه المخطوطات نواقص إذ سقط منها أوراق لقدمها.
واليك أيها القارئ الكريم نخبة طيبة من أقوال القديس مار إغناطيوس النوراني هي باقة عباقة من حديقة رسائله السبع، تمتع بقراءتها، وتأمل سموّها، وأحمد اللّـه تعالى لوصولها إلينا، سليمة، صحيحة، نقيّة، لتشهد لنا على صحة تعاليم الرسل، والآباء الرسوليين التي هي تعاليم الإنجيل المقدس ذاتها.
من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس:
مجّدوا يسوع المسيح كما مجدكم، واخضعوا للأسقف والكهنة لكي تتقدسوا بوحدة الطاعة.
إني مصفّد بالأغلال، لأجل اسم المسيح، ولكنني لم أبلغ الكمال بيسوع المسيح بل مازلت مبتدئاً في مدرسته، وها أنا اكتب إليكم كصديق إلى أصدقائه، حاثاً إياكم لتسلكوا بموجب روح اللـه. عالمين هذا أن يسوع المسيح هو مبدأ حياتنا وهو فكر الآب، كما أن الأساقفة في كل العالم هم في فكر يسوع المسيح.
لا ينبغي أن يكون لكم وأسقفكم (أونيسيموس) إلا فكر واحد بعينه، كما أنتم فاعلون، فان ارتباط قسسكم المكرمين بالأسقف يشبه ارتباط الأوتار بالقيثارة، فباتفاق عواطفكم ومحبتكم وتجانسها ترفع أصوات التسبيح والتمجيد ليسوع المسيح ربنا.
فان كنت أنا في مدة وجيزة، تأكدت بيني وبين أسقفكم (أونيسيموس) عقدة إخلاص داخلي هذا شأنه ليس فيه شيء عالمي (دنيوي) لكنه روحي كله، فكيف لا تُغبطون أنتم المتحدون معه في قلوبكم كاتحاد البيعة بيسوع المسيح، ويسوع بأبيه. فلنحذر مقاومة الأسقف إذا أردنا أن نظل خاضعين للـه.
لا يضل أحد، فان مَن يبتعد عن المذبح يحرم نفسه من خبز اللّـه (أف5) وإذا كانت صلاة شخصين متحدين لها مفعول كبير، فأي شيء لا تقدر عليه صلاة الأسقف متحدة بصلاة الكنيسة كلها؟. من لا يحضر الاجتماع فهو متكبر وقد دان نفسه، لقد كُتب «إن اللّـه يقاوم المتكبرين» (1بط5: 5 ويع4: 6).
أنا ضحية الصليب وان الصليب لنا خلاص وحياة أبدية. وإن إلهنا يسوع حملته مريم في أحشائها حسب التدبير الإلهي، فولد من نسل داود (يو7: 42 ورو1: 3) بقوة الروح القدس.
إن إبليس جهل أسراراً ثلاثة عجيبة تمت في صمت، هي: بتولية العذراء، وإيلادها، وموت الرب (يسوع) فسقطت مملكة (إبليس) القديمة. لأن اللّـه ظهر في الجسد، ليكمل النظام الجديد (رو6: 4) (ويمنح) الحياة الأبدية (للمؤمنين).
اذكروني كما يذكركم المسيح. صلوا لأجل كنيسة سوريا التي اختطفت منها حاملاً أغلالي إلى رومة، أنا آخر المؤمنين في أنطاكية ولكن اللّـه اختارني لأمجده.
سلام باللّـه الآب ويسوع المسيح رجائنا العام.
هذا بعض ما نقتبس من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس ونُقل إلى السريانية وأُدخل مجموعة القوانين الكنسيّة في كنيستنا السريانية المقدسة:
فلنجتهد، ألا نوجد مقاومين الأسقف، لكي نوجد خاضعين للـه تعالى. لأنه بقدر ما يرى أحدهم الأسقف صامتاً، عليه أن يهابه أكثر، ذلك أن من يرسله رب البيت لإدارة شؤون بيته، يجب قبوله كقبولنا مرسله ذاته، فعلينا أن نكرّم الأسقف تكريمنا الرب يسوع نفسه.
اجتهدوا أن تعقدوا اجتماعاتكم بدون انقطاع، لتقديم آيات الشكر والتمجيد للـه تعالى دائماً. لأنه بقدر ما كنتم ثابتين معاً تدحرون قوة إبليس، وباتحادكم في الإيمان تتلاشى سلطته. لاشيء أفضل من السلام، فهو الذي يُبطل سائر حروب السماويين والبشر.
خير للإنسان أن يكون صامتاً وهو شيء (مهم) من ألا يكون شيئاً (مهماً) ويتكلم.
جيد جداً أن يعمل الإنسان، إن كان يعمل بما يعلم…
لا يؤذن بالعماد، ولا بإجراء النياحات (الصلاة عن الموتى) بدون الأسقف. فكل عمل يفحصه الأسقف هو مرضيٌّ لدى اللـه. فاتبعوا هذا لكي يكون كل ما تعملونه ثابتاً وأكيداً.
لتستيقظ إذن، قبل فوات الأوان، تائبين إلى اللـه، جميل أن نعرف (سلطة) اللّـه والأسقف، فان من يكرم الأسقف يُكرَّم من اللـه.
ومن يقوم بعمل ما (فيما يخص الكنيسة) بدون معرفة الأسقف يعبد الشيطان.
من رسالته إلى أهل الإيمان في مغنيزيا:
لا ينبغي أن يتخذ من حداثة أسقفكم (دامسوس) سبباً للإفراط في الدالة عليه، بل وقروه لأنه يحمل هذه الأسقفية التي هي نفس سلطة اللّـه الآب. واني أعلم أن كهنتكم الأنقياء لم يستخفوا في حداثته الظاهرة، ولكنهم يخضعون لأبي ربنا يسوع المسيح أسقف الجميع. فكونوا إذن مسيحيين لا بالاسم وحسب بل بالفعل.
أن الرب (يسوع) لم يأتِ عملاً لا بذاته ولا برسله بدون الآب (راجع يو5: 19 و8: 28) وهو الأب واحد. وهكذا ينبغي لكم ألا تقدموا على عمل ما بدون الأسقف والكهنة،…فليس صالحاً إلا ما تصنعونه مشتركين. ولا يمدح أبداً ما عملتموه منفردين.
إن الذين كانوا يعيشون بموجب نظام العهد العتيق، واعتنقوا الرجاء الجديد، فلا يحفظون بعد السبت لكن يوم الأحد اليوم الذي فيه ظهر نجم حياتنا بوساطة موت الرب (يسوع المسيح). هذا السر الذي جحده كثيرون وهو ينبوع إيماننا، وصبرنا على تحمل ما يؤهلنا أن نصير تلاميذ حقيقيين ليسوع المسيح معلمنا الأوحد.
ما أبشع هذا التناقض، إننا نتلفظ باسم يسوع المسيح ونعيش كيهود. فان المسيحية لم تؤمن باليهودية لكن اليهودية آمنت بالمسيحية التي إليها جاءت كل الشعوب المؤمنة باللّـه من كل لغة.
اذكروا أيضاً كنيسة سوريا. فأنا عضو منها حقير، وأنني بحاجة إلى اتحاد صلواتكم ومحبتكم، حتى بواسطة كنيستكم يمطر اللّـه ندى نعمة على كنيسة سوريا.