من أرشيف مجلة المسيرة/إن ننسَى فلن ننسى: هناك عند كوع الكحالة

1184

من أرشيف مجلة المسيرة/إن ننسَى فلن ننسى: هناك عند كوع الكحالة…
فيرا بو منصف/مجلة المسيرة/العدد 1480
شباط/10/15

هو كوع كسواه من أكواع الشوارع التي تعبر بها في بيروت والضواحي. حائط باطون قليل الارتفاع يفصل بين خطّي الذهاب والإياب، من جهة كنيسة مار أنطونيوس البدواني، من ثانية منازل ومتاجر، الفارق بينه وسواه أنه كوع الكحالة، وشو يعني؟! من لم يعش الحرب والاحتلال لن يفهم الفارق، ومن عاش كل تلك التفاصيل يعرف أنه ليس كوع الكحالة، إنما هو منصّة لإطلاق الحرية، هو حكاية نضال كاملة، هو عين رمانة أخرى وزحلة ثانية وأشرفية ثالثة وكل هؤلاء يضاف إليهم عبق المقاومين وحكاية تشبه غير حكايات لكنها لا تشبه إلا نفسها. نحكي عن الكحالة.

ترتخي الشمس بنهم فوق، هي رائحة تشرين، ذاك العبق من صيف راحل وشتاء يتحفّز بقوة على العودة. ورق أصفر مع تلك المشحات الحمراء قبل أن تأتي الريح وتتناثر الأوراق فوق أرصفة المكان. عجقة، دائمًا عجقة، صيفاً ربيعاً شتاءً خريفاً، هي الكحالة، لا يمكن أن تعيش البلدة هدوء الضجر أو سكينة من نوع الكسل، هذا مكان ينغل فيه التاريخ والحاضر والمستقبل.

لم نعش حرب السبعينات لنعرف تفاصيلها، قرأنا في كتب هناك وهنالك عما كان يجري في المكان، كان يجب أن نقرأ ونكتشف لنفهم ما حصل لاحقاً ولماذا تحولت الكحالة الى حصرمة حارة حادة في عيون أعداء من داخل وخارج. لو تحققت أمنيات الأعادي لكانت مُسحت الكحالة عن الخارطة وصارت المدينة معبر الفاتحين والمرتزقة والأقدام السود والمحتلين، وخصوصاً “الأشقاء” منهم، لكن السماء لا تسمع صوت كل دعاء، وإلا لأمطرت ولو لمرّة واحدة على الأقل عظاماً، كما يقول المثل الشعبي، لكن سماء الكحالة ومنذ السبعينات تحديداً، تمطر وبنهم أيضاً شهداء، ومن تمطر سماؤه هذا الكم من الكرامة، يعني أنها مدينة مقاومين ولا شيء سوى المقاومين.

لمّا اجتاح الاحتلال السوري كل لبنان، في العام 1990، بدأت لنا مع كوع الكحالة غير حكاية. قبل ذلك، الثمانينات تحديدًا، كان المكان من ضمن المناطق الشرقية المحررة، وكانت المنطقة خطّ تماس، مثل عين الرمانة والجوار، وكيف لا، ألم تكن جارة الحدث والحدث جارة الضاحية وفي الضاحية كان من كان ممن تعرفون وما زالوا؟

إذن نبدأ الحكاية من آخر التفاصيل وليس أولها. دخل الاحتلال السوري قلب البيوت، صار الحاكم غازي كنعان، صارت عنجر والبوريفاج ملفى الذل وتعذيب اللبنانيين، وصارت المزّة ملفى اعتقالنا، بالعشرات بالمئات، شاحنات يومية تعبر بأجسادنا وشبابنا الى ذاك القاطع الآخر من الحدود، قاطع المرارة والعبودية.

كل مسيحي حرّ كان مصيره الاعتقال. صار الحبس كبيراً، ما عدنا نحكي إلا همساً ونخشى إن سمعنا الهمس فنحكي حالنا بقلوب مرتجفة، كان الجهاز الأمني اللبناني ـ السوري يتغذّى من آثار التعذيب وهي تلفح مقاومينا، “القوات اللبنانية” خصوصاً، لم يظمط شاب من اعتقال أو تعذيب أو تهجير قسري، كان يجب إما أن نصمت أو نتماشى مع الاحتلال لنصبح عملاء كما فعل كثر من اللبنانيين، أو مصيرنا الموت والاعتقال، فاخترنا ما بينهما، المقاومة. لم يكن مسموحاً أن نرفع علم “القوات” أو حتى التكلّم باسمهم، لكن كوع الكحالة كان يفعل!!

أذكر أن من وقت لآخر، وعند كل مناسبة تتعلق بـ”القوات اللبنانية”، نعرف أن عند كوع الكحالة دُرزت فجأة أعلام “القوات” وجاءت مخابرات الجيش وانتزعتها وتعرّض عدد من الشبان للاعتقال. يزلغط الفرح فينا، خي ثمّة من يتجرّأ على المقاومة علناً. كانت الكحالة تشبه ببعض تفاصيل مقاومتها، زحلة وعين الرمانة والأشرفية إنما بوتيرة أسرع.

عند دخول الحكيم المعتقل جنّ الشباب فوق، عند المحاكمات كانوا يتجمعون ويستنكرون وينشرون صوره ليلاً، عند صدور الأحكام الجائرة، ينشرون صورًا وملصقات وعبارات مرشوشة بالأسود العريض تطالب بالحرية له والسيادة للبنان.

في قداس شهداء “القوات”، كانوا يهرّبون الصور والأعلام تحت ثيابهم، كما كان يفعل القواتيون جميعا، ويزحفون في اتجاه حريصا أو سيدة النجاة في جونية للمشاركة بالقداس بعد أن يكونوا نشروا صورًا وملصقات ليلاً عند الكوع إياه.

من وقت الى آخر تصلنا أخبار أن أهالي من الكحالة وبعض الشباب تصادموا عراكاً وتلاسناً مع سوريين يجولون بحرية أهل البيت في البلدة، وأحيانا كانوا يطردون البعض منهم ولا يهابون، ونحن نفرح، نشعر أن كوع الكحالة هو منفذ القلب الى الحرية، الى إستنشاق بعض من سيادة مفقودة بالكامل، ويتكرر المشهد، مخابرات الجيش التي كانت خاضعة للاحتلال ولجميل السيد، تقتحم المنازل والى الاعتقال والضرب والإهانات.

وهكذا عبرت الأيام الى أن حلّ ذاك اليوم، 7 آب  2001 عند عودة بطريرك الاستقلال مار نصرالله بطرس صفير من زيارته الشهيرة الى الجبل، وبعد عام على نداء المطارنة الشهير. هناك عند الكوع تماماً، رأينا وشهدنا على ما فعلته الرناجر السود بالأحرار. كان النظام الأمني عابقاً غاضبًا من بطريرك تمكّن بالمحبة والحزم وقول الكلام المناسب في الوقت المناسب، من كسر حواجز السنين والتهجير والموت بين المناطق، زار الجبل وكرّس العودة إليه، وسمع العالم كله كلاماً لم يسمعه من قبل، كلام هو الحياة بالنسبة للبنانيين، سمعوا البطريرك يطالب بجلاء جيش الاحتلال، وسمعوا وليد جنبلاط يشدّ على يد البطريرك الماروني ويطالب أيضًا بجلاء الاحتلال الغريب عن أرضنا، انتظروا حتى وصل موكب العائد الكبير من زيارته المدوّية الى الجبل وعند كوع الكحالة تفجّر كل شيء.

أذكر كنت عائدة من ضيعتي في البقاع، كانت عجقة سير خانقة إبتداء من أول عالية، لم نعرف بداية السبب، وإذ بخبر عاجل يُبث عبر إذاعة “لبنان الحر” عن اشتباكات تدور بين الشباب وعناصر للجيش عند كوع الكحالة، قريب لي كان يجلس معنا في السيارة، لم يتحمّل الوضع “ما فيي أنطر أكتر من هيك يمكن يكونوا الشباب بحاجة إلنا للمساندة هلأ السوريين بيكونوا عم يزلغطوا” وترجّل مسرعا وبدأ يركض بجنون في اتجاه الكحالة والناس في السيارات مذهولة، كان الوضع هناك في ذروة المواجهة، عناصر من المخابرات اللبنانية والسورية تتعرض بالضرب المبرّح للشباب وفي كل الاتجاهات، ومن بعدها حصل ما حصل واعتقل الشباب بالعشرات ومن بينهم قريبي، وبدأت مذذاك اليوم حرب تحرير فعلية وليس وهمية من الاحتلال السوري… وذهب جيش الاحتلال وبقي كوع الكحالة.

في بعض ما نشر عن حكاية البلدة يقول الأهالي أنه في العام 1976 كان الهدف “مسح الكحالة” من الخارطة، لأنها كانت مثل القشّة العالقة في مقلة العين يجب اقتلاعها لتصبح الرؤية أفضل، والكحالة كانت قشّة ما كان يسمى يومذاك بـ”القوى الوطنية” التي كانت متحالفة مع المنظمات الفلسطينية المسلحة وحافظ الأسد، وتسعى الى دخول المناطق الشرقية تمهيدًا لاحتلالها ودعمًا للمخيمات الفلسطينية في تل الزعتر والجوار. كانوا كثرًا ومجهزين بكل أنواع الأسلحة، وكانت مدافعهم موجهة مباشرة في وجه الكحالة تصبّ حممها، وأهم أسلحتهم سلاح الحقد، في المقابل كانت المقاومة المسيحية غير مكتملة التجهيزات العسكرية وكان عدد الشباب في الكحالة قليلاً لكن سلاحهم كان فتاكاً… الشجاعة والانتماء الى الأرض، ومن يملك الانتماء يملك كل الأسلحة.

هي معركة حياة أو موت إذن خاضوها دفاعاً عن الشرف والأرض والناس والكرامة. يذكر الأهالي آذار من ذاك العام، إذ غرقت البلدة بحمم القذائف وفي خلال أسبوع واحد سقط على الكحالة أكثر من 16 ألف قذيفة مدفعية وصاروخ كاتيوشيا بهدف احتلالها، كان القتال ضارياً جداً وعنيفاً ومتواصلاً، والأهالي يقاومون، وكتبت يومذاك صحف أجنبية بأن “معركة الكحالة أكبر معركة على أصغر بقعة أرض”، ولم يربحوا كما كانوا يتوقعون ويخططون.

سقط عشرات الشهداء وبقيت الكحالة القشّة التي تؤرّق عيون الأعداء والخصوم، وتوالت تواريخ المقاومة من السبعينات حتى الثمانينات والتسعينات فالألفية الثانية، وانهمر مع التواريخ  نهر شهداء في الكحالة ومن كل العائلات حتى قارب الستين شهيداً، كيف تتحمل بلدة واحدة هذا الكم من الحزن؟… لنقل كيف تتحمل غير بلدات ألا تحمل شرفاً يقارب كالذي حملته الكحالة على امتداد تاريخ الحرب والاحتلال في لبنان؟ ألم نقل بداية هي زحلة والأشرفية وعين الرمانة الأخرى؟

لم تنتهِ الحكاية هنا، لم يشأ أهل المكان أن يضعوا نقطة على السطر، شاركوا في أجمل الثورات، ثورة الأرز، نصب شباب “القوات اللبنانية” خيمهم في ساحة الحرية في بيروت، اعتصموا احتجاجًا على استشهاد الرموز الوطنية الكبيرة، طالبوا بسقوط حكومة عمر كرامي وصرخوا سعادة عندما أعلن استقالتها، طالبوا بمحاكمة عضوم وجميل السيد ومصطفى حمدان وإميل لحود وجلاء الاحتلال، نزلوا الى شرف الذكرى في 14 آذار، شاركوا في الانتخابات، انتظروا لحظة بلحظة جلاء الجيش السوري، وقفوا عند مفترقات الطرق يراقبون أفولهم الذليل، لهم في هذا النصر آيادٍ بيضاء وأجساد اعتقلت وعُذبت وقائد أسير، وشهداء شهداء شهداء فكيف لا يهللون؟!

هي الكحالة بكل تاريخها الأحمر الأخضر العريق، الأحمر للحب والشهادة والأخضر عندما تزهر الحرية، ما زالوا في قلب القضية، لم يتغيّروا، ما زالت المدينة بنت الضيعة لم تتغيّر، هناك أيضاً في المكان الرامش على قرى الجبل، عندهم أيضاً حكايات البساطة، يصنعون بعضاً من حكايا الضيعة، يصنعون مؤونة لشتاء يحل عندهم قبل كل بيروت، وما زالت لديهم نوادرهم وتواريخهم ومحطاتهم الجميلة، وما زال كوع الكحالة قابلة كنيسة مار مطانيوس يراقب الأيام، يترصّدها، هو جاهز لكل جديد، سيعبر الكثير بعد من هناك، قد تتغيّر التواريخ لكن يبقى كوع الكحالة هو نقطة البداية ولا نهايات، هناك حيث تحفر يد بخط الكرامة العريض، نحن هنا يا شباب حفرنا استقلالنا بخط الشمس والشهداء ومستحيل مستحيل أن يسلبنا إياه أحد، نحن للجمهورية القوية، للدولة الحرة، للبنان أخضر حلو، وغير ذلك لا نقبل، وما عليكم سوى أن تجربّونا من جديد…

*لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “إن ننسى فلن ننسى” من حكايات رفاق توجوا نضالهم بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.

http://www.lebanese-forces.com/2015/02/10/kahalebatttle/