أحمد عدنان/خوجة، سفير الأسرار ووزير التنوير

756

خوجة، سفير الأسرار ووزير التنوير
أحمد عدنان
10, 2015 /موفع انحاء الألكتروني

http://www.an7a.com/160528

لم أتفاجأ حين قرأت خبرا عن تكريم معالي د. عبدالعزيز خوجة (الوزير السابق للثقافة والإعلام) – بعد أشهر من ترك منصبه – من مجموعة “نخبة الثقافة والإعلام”.

لم يطل عهد (خوجة) الوزاري قياسا بالعمر المهني للوزراء السعوديين، لكنه ترك بصمة لن ينساها الوطن ولن يتجاهلها التاريخ، فاسم (خوجة) ارتبط بالإنجاز منذ كان عميدا لكلية التربية في مكة ثم وكيلا لوزارة الإعلام إلى مرحلته الدبلوماسية الثرية في تركيا وروسيا والمغرب ولبنان، ليختتم مشواره الرسمي في وزارة الثقافة والإعلام الذي دشنه بمقولة جميلة “ليس للحرية سقف نصطدم به، إنما فضاء نتقدم فيه وأمانة نتحملها”.

الحريم التركي

وكما أن سيرة خوجة حافلة بالمنجزات فهي متخمة – كذلك – بالأسرار، فالسندباد السعودي لعب دورا محوريا – على هامش حرب تحرير الكويت – باستقطاب تركيا إلى التحالف الدولي ضد صدام حسين من خلال صداقته العميقة بالرئيس التركي تورغوت أوزال وعلاقته القوية بأباطرة السياسة التركية (سليمان ديميريل، تانسو تشيلر ومسعود يلمظ). يروي صحافي تركي معاصر لتلك المرحلة أن تركيا أعلنت موقفها ضد صدام بعد ان اجتمعت رموز الدولة والحكومة والأحزاب التركية في منزل (خوجة) للتشاور وتقدير الموقف، وهي قصة تعكس مدى النفوذ الذي حققه رجل المملكة هناك. قبل عهد (خوجة) التركي لم تكن العلاقات السعودية – التركية بتلك الحرارة، لكن “الكيمياء” التي جمعت بين أستاذ الكيمياء (خوجة) وبين الصوفي النقشبندي (أوزال) تمددت كنهر دافئ بين الرياض وأنقرة أجاد توظيفه واستثماره العاهل الراحل فهد بن عبدالعزيز.

جنون يلتسين

من يقرأ شعر عبدالعزيز خوجة حين كان سفيرا في روسيا، يلحظ أن صقيع موسكو كسى قصائده بالجليد، لكن حساسية الموقف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واهتمام الملك فهد بتقلبات الموازين الدولية لم تجعل رحلة (خوجة) سهلة. مساء يوم 2 أكتوبر 1993 اتصل العاهل السعودي بسفيره وسأله “هل سيقصف الرئيس الروسي برلمانه؟ الموضوع يهمنا بشدة للتشاور الدولي ولاتخاذ الموقف المناسب”، رد السفير بثقة “أستطيع أن أؤكد لكم بأن يلتسين سيقصف البرلمان حتما”، انتهى الاتصال الذي أثار حفيظة زوجة السفير ورفيقة دربه (فايزة بكر) بسبب رد زوجها، قالت له “كيف تجزم للملك بأن يلتسين سيقصف البرلمان، إنه حدث غير مسبوق في العالم – وربما في التاريخ – أن يقصف رئيس دولة برلمانه المنتخب، فكيف تراهن بسمعة مهنيتك مهما كانت دقة مصادر معلوماتك؟”. يومها لم يتمكن (خوجة) من النوم، اتجه في اليوم التالي لأداء صلاة الجمعة وابتهل لله بأن ينفذ يلتسين تهديده، وحين خرج من المسجد كان الله قد استجاب لدعائه وقام يلتسين بقصف مجلس الدوما، عاد إلى منزله ليجد اتصالا من الملك فهد: “كل المسؤولين الدوليين الذين اتصلوا بنا واتصلنا بهم أكدوا بأن يلتسين لن يفعلها، لكنني انحزت لك، وكنت عند حسن الظن”. هذا الموقف الطريف ربما لا يضاهيه إلا موقف آخر في حياة خوجة المهنية يوم كان وكيلا لوزارة الإعلام، كانت المؤسسة الدينية السعودية تشن حملة ضارية على الغناء من منطق التحريم وحملة أشد على الاحتفال بالمولد النبوي من منطق البدعة، وصادف يوم المولد أن التلفزيون السعودي لم يبث أي أغنية – على عكس عادته آنذاك – فاتصل أحد رجال الدين السعوديين البارزين بوزير الإعلام حينها (الرمز الكبير محمد عبده يماني) متساءلا عن قطع التلفزيون لعادته في هذا اليوم وإن كان مسؤولو الوزارة يحتفلون بالمولد – عبر التلفزيون – بشكل مبطن، فقال الوزير بأن تفاصيل فقرات التلفزيون من مسؤولية وكيل وزارته، فاتصل رجل الدين بــ (خوجة) غاضبا “لماذا لم تبثوا أغان اليوم؟”، فقال له وكيل الوزارة الأول – بمنتهى الجدية – “وهل هناك أغنية معينة يحب أن يسمعها فضيلتكم”، حينها لم يتمالك رجل الدين نفسه من الضحك من قوة الطرفة وغرابة الموقف، ولم ينته الاتصال إلا وأصبح العالم الجليل صديقا للوزارة ولوزيرها ولوكيله.

صديقي الملك

صدر القرار السعودي بتعيين عبدالعزيز خوجة سفيرا في مصر، كانت السلطات المصرية مرحبة بقدومه إلى أرض الكنانة نظير سيرته العطرة وكفاءته المشهودة، وفي المقابل كانت وزارة الخارجية السعودية واثقة من خيارها، لكن في اللحظات الأخيرة، وتحديدا في مجلس الوزراء السعودي، كان للملك فهد رأي آخر، فطارت رحال (خوجة) من القاهرة إلى الدار البيضاء لتجمعه “كيمياء” خاصة جدا مع صديق الملك المقرب، العاهل المغربي الحسن الثاني، كان العاهل المغربي محبا للشعر وللفنون وللثقافة لأنه من الأساس، وبشهادة خصومه وأصدقائه، أوتي نصيبا وافرا من ذلك كله، كان الحسن الثاني ملكا في كل سلوكياته وتفاصيله، حين يحب، حين يغضب، حين يصادق ويخاصم، حين يتكلم وحين يستمع، وفي المقابل كان سفير المملكة شاعرا حتى النخاع، فتفاعلت حكمة ملك مع نقاء شاعر في فسيفساء خلابة انعكست أضواؤها على العلاقات المتينة – أصلا – بين الرياض والدار البيضاء. لا ينسى (خوجة) تلك اللفتة الملكية من الحسن الثاني، التي كانت صغيرة الحيز شاسعة المعنى، كانت المغرب تحتفل بذكرى المولد النبوي في حفل رسمي يرعاه الملك، وبدأت الفرقة الموسيقية الملكية بعزف أولى المدائح النبوية، التفت الحسن الثاني إلى (خوجة) القريب منه موقعا التفاتة سريعة موشحة بابتسامة رضا وتحية، كان الملك قد وجه الفرقة الموسيقية بأن تعزف قصائد المديح النبوية التي كتبها (خوجة) نفسه، حين استمع السفير إلى الشادي يترنم بكلماته التي خاطب بها جده الأعظم “لو أنهم جاؤوك لانبلج الصباح.. لو أنهم جاؤوك ما شدوا رحالهم إلى جهة الضياع” عاد به الزمن إلى لحظة فراغه من تلك القصيدة، يومها قال له وزير النفط التاريخي أحمد زكي يماني: “دعنا نسافر إلى طيبة غدا لتقرأها بين يدي رسول الله”، وهذا ما كان، بعد خروجه من الحرم النبوي خلد (خوجة) إلى النوم ورأى مناما صالحا أبهجه، منذ ذلك الحين كلما ضاقت الدنيا على (خوجة) زار جده في المدينة طلبا للفرج من الله، وقد أوصى ابنه محمد بذلك في قصيدته “يا ولدي.. ليس في وجهتنا غير المدينة.. درة يحرسها نور النبي الأمجد.. بابها يرعاه مليون ملاك.. اغسل الهم هناك.. دربها أجنحة نحو السماء.. فلها، ريحانها، نعناعها فيه الشفاء.. قف على أبوابه.. طاهر النفس.. خفيضا في حياء.. إنه هذا النبي”.

انشغل (خوجة) في المغرب بحفظ العلاقة بين البلدين، لكن أحداث 11 سبتمبر وضعت العلاقة تحت الاختبار، فالمملكة تعرضت جورا – في تلك المرحلة – لتهمة الإرهاب، وما زاد الطين بلة تفجيرات 2003 في الدار البيضاء التي تورط في تنفيذها سعوديون، كان تعامل السفير السعودي والسلطات المغربية مع الحدث حكيما جدا، فتمت معاقبة الإرهابيين وبقيت العلاقة السعودية – المغربية في صورتها المثلى، ربما تكون تلك اللحظات هي أصعب محطات (خوجة) في المغرب. روى (خوجة) في حديث لمجلة (الرجل) – ذلك الزمن – أن تلك الحادثة ساهمت – حينها – في خفض نسبة جريمة سرقة جوازات السفر السعودية إلى الصفر تقريبا، وصل بلاغ إلى السفارة بأن مواطنا سعوديا سرقت حقيبة يده في الدار البيضاء، لكنه حين عاد إلى الفندق، وجد أن السارق قد اعاد جواز السفر مكتفيا بغنيمة الحقيبة وما فيها من أموال وهدايا، قال (خوجة) لمجلة (الرجل): “حين وصلني البلاغ لم أعرف هل أضحك أم أبكي” في إشارة إلى نتائج الضغط الإعلامي الدولي الذي استهدف المملكة آنذاك!.

النوم فوق فوهة بركان

بعد الحقبة المغربية، ترشح (خوجة) سفيرا في أسبانيا، لكن في اللحظات الأخيرة ارتأت السلطات السعودية أن تسحب ترشيحها إلى لبنان ليحل الأمير سعود بن نايف سفيرا في مدريد. اعتقد (خوجة) بأن محطة بيروت ستكون استراحة محارب بعد رحلة دبلوماسية طويلة، لكن حادثتين قبل سفره دفعتاه للتفكير فيما ينتظره، الأولى نصيحة أسداها له الوزير الأسبق علي الشاعر (أحد سفراء المملكة في لبنان إبان الحرب الأهلية): “الزم الحذر، فلبنان ربما يكون من أصغر الدول مساحة في العالم، لكنه – قطعا – من أكثرها تعقيدا”. الثانية، كان (خوجة) في منزل ابنته بحي الشاطئ – في جدة – ليتلقى اتصالا مفاجئا من الرئيس رفيق الحريري الذي أدلى بتعليقات تفصيلية حول موقع سكنه وتدابير أمنه.

وصل (خوجة) إلى بيروت معتزما تطبيق الدبلوماسية في صيغتيها الشعبية والثقافية كما فعل في المغرب، وهي مدرسة أسسها غازي القصيبي حين كان سفيرا في المنامة وأتقنها خوجة في المغرب وطورها تركي الفيصل في الولايات المتحدة، والتي تهدف إلى تعزيز العلاقة بين النخب الثقافية والشعبية كقوة ناعمة تحمي العلاقة الرسمية. أسس (خوجة) مجلسا أسبوعيا في منزله كموقع اجتماع لأهل الثقافة والصحافة والإعلام، لقد خدعته (بيروت) باستقبال دافئ عاصره صديقه الأثير عبدالله الجفري وكتب عنه في إحدى مقدمات دواوين (خوجة)، كان (الجفري) سعيدا بسعادة صاحبه، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي به السفن، اشتعلت أزمة التمديد للرئيس اللبناني الموالي لسوريا (إميل لحود) ووقعت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مغيرة وجه لبنان والمنطقة العربية بأسرها، حينها كان (خوجة) يرقب أمواج البحر من شرفة منزله في منطقة (الرملة البيضا)، ثم جلس إلى مكتبه، طوى ريشة الشاعر، واستل – مرة أخرى – سيف السفير. كان (خوجة) قد التقى (الحريري) قبل الاغتيال بأسابيع وحذره من أن “الجيران” يستهدفونه، فرد (الحريري): “الوطن ليس فندقا، سأبقى في لبنان، ويسعدني أن أموت في سبيله كما تشرفت بالعيش من أجله”.

وكأن كل براكين الدنيا وزلازلها انفجرت في لبنان يوم 14 فبراير 2005، دشن اللبنانيون ربيع العرب بخروجهم المليوني إلى ساحة الشهداء مطالبين بإنهاء عهد الوصاية السورية ومحاسبة قتلة الشهيد رفيق الحريري، استقالت حكومة عمر كرامي، عاد ميشال عون من المنفى وخرج سمير جعجع من السجن، والأهم إجراء أول انتخابات نزيهة في لبنان منذ الحرب الأهلية أفضت إلى تمكن تيار السيادة والاستقلال من السلطة.

كانت ثورة الأرز محظوظة – داخل لبنان – برجلين، أحدهما هو زعيم الجبل وحكيم الطوائف المشرقية وليد بك جنبلاط، والثاني بلا جدال هو عبدالعزيز خوجة. والأهم أن أنها حظيت برجلين خارج لبنان هما عبدالله بن عبدالعزيز أولا وثانيا وثالثا ثم الرئيس المصري حسني مبارك. ما كانت لسوريا أن تخرج لولا موقف ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز أثناء زيارة الرئيس بشار الأسد للرياض بعيد اغتيال (الحريري)، قال رجل السعودية القوي – الذي أصبح ملكا بعد عام – لطاغية دمشق: “العلاقات بين بلدينا في كفة، وبقاؤكم في لبنان في الأخرى، وعليك أن تختار”. لن ينسى وليد جنبلاط لقاؤه بحسني مبارك في خضم ثورة الأرز يوم قال له: “بشار الأسد مجرم وسيعاقب على إرهابه”. ولن ينسى (جنبلاط) لقاؤه مع (الحريري) بعد زيارة الأخير لبشار الأسد، تراهنا على من سيغتال منهما أولا، وكأن هذا اللقاء تكرار لاجتماع الخليفة عثمان بن عفان مع خليله عمرو بن العاص، كان الخليفة الثالث محاصرا بحملة حقد وغضب خرجت عن السيطرة، فقال لصاحبه كيف تنصرني، فأجاب داهية العرب “أسأل الله أن يحفظك، وإن نالوا منك سأخرج لدمك”.

كان عبدالعزيز خوجة ووليد جنبلاط يعلمان أن قرار الاغتيالات صدر في دمشق وطهران مع تكليف (حزب الله) بآلية القتل والتنفيذ، حينها ارتأى (جنبلاط) أن يركز اتهامه السياسي على من أصدر القرار لحماية البلد من فتنة سنية – شيعية تاركا كشف المنفذين لتوقيت آخر. لكن ماكينة القتل لم تتوقف، فطالت جورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وغيرهم، اجتمع عبدالعزيز خوجة بالسيد حسن نصر الله وأبلغه بأن المعلومات المؤكدة كشفت بأن تفخيخ السيارة التي استهدفت موكب الرئيس رفيق الحريري تم في الضاحية (معقل الحزب الإلهي) محذرا من مغبة الإرهاب وبأن المملكة لن تسكت، رد أمين عام (حزب الله) “سنحرق البلد إذا استهدفتمونا”. قال (خوجة): “لا أحد يريد إحراق لبنان، الجم قتلتك وحاسبهم بيدك وانضو في العملية السياسية، التفاهم أولى من الإحراق، لا أحد يريد أن ينصر إسرائيل ولا أحد يريد إلغاء الآخر”. لم تبد أي بوادر تشير إلى أن (حزب الله) يريد التفاهم، سافر عبدالعزيز خوجة إلى الرياض تلبية لاستدعاء العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، وكان موضوع الاجتماع واحدا، المحكمة الدولية، تسربت فكرة المحكمة إلى الساحة اللبنانية فواجهها (حزب الله) بتعطيل الحكومة عبر اعتكاف وزرائه أكثر من مرة، حينها لم يتحمل (جنبلاط) ما يجري فأطلق صرخته المدوية “تم تفخيخ السيارة التي استهدفت الحريري بسلاح الغدر في الضاحية” فرد عليه (حزب الله) “لو كان الغدر رجلا فهو وليد جنبلاط”.

يتذكر (خوجة) جيدا لحظة وصول ديتليف ميليس إلى لبنان، المحقق الدولي الأول في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، يتذكر استقالة القادة الأمنيين المسؤولين سياسيا عن اغتيال الحريري، لا ينسى تلك الليلة التي زار فيها أحد الضباط منزله متهما زملاؤه باغتيال الحريري، ولا ينسى الليلة التي تلتها حين حضر ضابط آخر ليبرأ نفسه – أيضا – ويتهم البقية.

كانت الحلقة تضيق على (حزب الله) في لبنان، وتضيق على إيران وسوريا في المنطقة، حينها افتعل (حزب الله) حرب تموز عام 2006. وقتها واجه عبدالعزيز خوجة أصعب اختبار في حياته الدبلوماسية، فقد صرحت المملكة بأن ما فعله (حزب الله) “مغامرة غير محسوبة”، كان مطلوبا من (خوجة) أن يحافظ على اتصالاته بـ “حزب الله” – في ذلك الظرف الدقيق – رغم موقف المملكة الحاد، وجد (خوجة) أن المواجهة هي الحل، استقل سيارته واتجه إلى المخبأ الخاص للسيد حسن نصرالله، كان الاجتماع ساخنا ومع ذلك انتهى كما يريده (خوجة). العلاقة بين (خوجة) ونصرالله معقدة للغاية، هي مزيج من الخصومة والإعجاب والاحترام في آن، كان (خوجة) هو الوحيد في لبنان الذي يعرف موقع المخبأ السري لحسن نصرالله، وكان يتجه إليه مباشرة، وهو ما لا يحصل مع أقرب حلفاء الحزب الإلهي، كان نصر الله يعرف أن (خوجة) خصم عنيد، لكنه خصم شريف لأن المملكة – وخوجة الذي يمثلها – لا تعادي (حزب الله) لسبب طائفي أو نصرة لإسرائيل. لم يهاجم امين الحزب الإلهي سفير المملكة إلا مرة واحدة، فرد عليه (خوجة) بالاسم في تصريح مشفر فهم (نصر الله) دلالاته جيدا، وفي اليوم التالي كان وفد من (حزب الله) يزور (خوجة) معتذرا. أهم إنجاز حققه (خوجة) – على هامش حرب تموز – تظهير قرار انتشار الجيش في الجنوب اللبناني لأول مرة منذ حربي 1948 و1967، انتقل (خوجة) من منزله البحري – خلال الحرب – إلى فندق (جراند هيلز) في برمانا الجبلية تاركا النوم في بيروت، تكثفت نشاطاته واتصالاته لإيقاف الحرب ومساعدة المنكوبين، كما برز – أيضا – كخادم مخلص لمواطني بلاده حين سخر كل جهود السفارة لتأمين السياح والمقيمين السعوديين ونقلهم خارج لبنان.

بعد حرب تموز، واجه (خوجة) ثلاث أزمات خطرة، حرب النهر البارد وحصار السراي وأحداث أيار، كانت الحرب التي أعلنها تنظيم (فتح الإسلام) الإرهابي ضد الجيش مؤامرة كادها بشار الأسد هدفها أن يسيطر الإرهاب على طرابلس (عاصمة السنة) المعادية له. مع بدء المعارك بقرار اتخذه رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، نشطت الماكينة الإعلامية السورية – الإيرانية في لبنان بهدف اتهام المملكة بالإرهاب، لكن حكمة العاهل السعودي حاضرة، ويقظة السفير النجيب متنبهة، أمر العاهل السعودي بدعم الجيش اللبناني بالمال وبالعتاد وبتغطيته سياسيا، وكثف السفير نشاطه الإعلامي – أصالة وتسريبا – ساخرا من اتهام المملكة وحلفائها بالوقوف خلف (فتح الإسلام) “نسبة السعوديين في التنظيم أقل من 3% معظمهم بين عمر 18 – 23 سنة، وليس لأي منهم دور قيادي، بل أغلبهم غرر به – عبر الأنترنت – بذريعة الجهاد في العراق أو في فلسطين ووجدوا نفسهم في لبنان عبر سوريا، والأهم من ذلك أن قائد التنظيم ومؤسسه (شاكر العبسي) أطلق من سجون دمشق بعفو رئاسي خاص”. نجحت سياسة المملكة ونشاطات (خوجة) لأنها عبرت عن الحقيقة، ولأنها تلقت مصادقة – غير مقصودة – من الأمين العام لـ (حزب الله) الذي أعلن في أغبى تصريح سياسي “النهر البارد خط أحمر” مناصرا (فتح الإسلام) ضد الجيش، فانكشف حينها كل شيء.

آنذاك، وبعد حرب تموز تحديدا، عطل الوزراء الشيعة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بذريعة تشكيل حكومة وحدة وطنية، كان هدف (حزب الله) الحقيقي تعطيل القرار السياسي بالاستيلاء على نصاب الثلث زائد واحد، ومن أجل ذلك حشد أنصاره في ساحة رياض الصلح، استطاع الحزب الإلهي تعطيل المفاصل الأساسية في البلاد، فطغى الفراغ على سدة الرئاسة الأولى، والانتخابات النيابية أصبحت مهددة، لجأ (خوجة) حينها إلى صديقه الخاص نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني، توصل الصديقان إلى أن لبنان بحاجة إلى اتفاق مرحلي يخرجه من الأزمة ويعيده إلى اتفاق الطائف، وهنا بزغت فكرة “مؤتمر الرياض”، هدف المؤتمر إلى: تحقيق الإجماع على المحكمة الدولية، إقرار قانون انتخابي نيابي جديد ودائم ثم التوافق على رئيس جمهورية ووضع قواعد ثابتة وواضحة لتشكيل الحكومات. وضع الصديقان تفاصيل كل بند في المؤتمر وحلوله المقبولة من كل الأطراف، لكن الطعنة جاءت لـ (خوجة) من أقرب الحلفاء، الرئيس فؤاد السنيورة ثم سعد الحريري. علاقة (خوجة) بـ (بري) تكشف أهم مزاياه كدبلوماسي، أي قدرة بناء الثقة والاحترام مع الخصوم وتسخير ذلك من أجل بلاده. كشف الرئيس بري – غاضبا – مشروع مؤتمر الرياض الموؤود، فعلق (خوجة) المغتاظ من حلفائه: “الرئيس بري وضع النقاط على الحروف”. العلاقة بين (خوجة) و (بري) عجيبة، فقد كشف الكاتب اللبناني سمير عطا الله أن قصيدة (لقاء الساعتين) – التي رأت النور قبل نحو سنتين بصوت فنان العرب محمد عبده ولاقت نجاحا رفيعا – كتبها (خوجة) – يوم كان سفيرا في لبنان – بعد اجتماع دام ساعتين مع الرئيس (بري)!. في مجلس خاص قال (خوجة): “كانت اجتماعاتي مع الرئيس بري دقيقة دائما، نتحدث بثقة كاملة وبأوراق مكشوفة وبصدق مخلص، لذلك كانت العلاقة بناءة ومستقرة على الدوام حتى في أحلك الظروف”. ربما عرف (بري) طموح النائب العوني عباس الهاشم لرئاسة مجلس النواب بعد انتخابات 2005 وعلم كيف سقط ذلك الترشيح لبنانيا ودوليا.

لم ينعقد مؤتمر الرياض، لذا تمادى (حزب الله) في طغيانه، اكتشفت السلطات اللبنانية أن (حزب الله) زرع كاميرات مراقبة في المطار كما اكتشفت شبكة اتصالات سلكية للحزب خارج مسرح العمليات. أمرت الحكومة اللبنانية بمصادرة الكاميرات وإقالة مدير المطار وتفكيك شبكة الاتصالات، غضب (حزب الله) واحتل بيروت وروع الجبل، فكانت النتيجة اتفاق الدوحة الذي أنهى الأزمة لكنه لم يصل في نتائجه إلى طموحات مؤتمر الرياض الذي هندسه (خوجة – بري) وباركه العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز. عززت أحداث أيار صورة (خوجة) كسفير ناجح في خدمة رعايا بلاده حين أمنهم وأعادهم بنجاح وسلامة إلى المملكة.

انتهى مؤتمر الدوحة بتسهيل انتخاب ميشال سليمان رئيسا، كانت 14 آذار رشحت للرئاسة نسيب لحود وبطرس حرب، و8 آذار رشحت ميشال عون لرئاسة الجمهورية، حاول عمرو موسى (أمين جامعة الدول العربية في ذلك الوقت) التوفيق بين الفريقين في مباحثات ماراثونية لكن جهوده باءت بالفشل. لكن 14 آذار، في لفتة سياسية نادرة، اعتمدت خطة احتياطية بتوثيق الاتصالات بقائد الجيش وقائد معركة النهر البارد (سليمان) عبر عناصر موثوقة داخليا وخارجيا، آنذاك انهالت الدعوات على ميشال سليمان، تعرفت عليه أرفع القيادات الأمنية والعسكرية في المملكة وفي مصر، لذلك تمكن سعد الحريري من مباغتة الجميع حين أعلن عن مرشح أخير لا يمكن رفضه في حال ماتت كل الجهود والمبادرات. فشلت مباحثات عمرو موسى وسقط ميشال اده مرشح بطريرك السيادة الاستقلال نصرالله صفير، فجاء ميشال سليمان رئيسا. في خضم الأزمة اللبنانية تعرض (خوجة) لثلاث محاولات اغتيال – على الأقل – سلمه الله من شرها ولم يعلن إلا عن واحدة، كانت تلك المحاولات نهاية علاقته المباشرة بحسن نصرالله!.

كما نجح (خوجة) في لبنان سياسيا، فقد نجح ثقافيا وإنسانيا، وسبب ذلك سياسة ومنهج العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، والمزايا الشخصية والمهنية التي يتمتع بها (خوجة)، فهو الشاعر في بلاد الفنون والإنسان في أرض الطبيعة. في زمن الأزمات وغيرها، كانت السفارة السعودية خلية نحل لخدمة المواطنين السعوديين المتواجدين في لبنان سياحة أو إقامة، وحين يتجاوز الأمر صلاحيته كسفير كان يغطيه كإنسان، وقد امتد ذلك إلى حالات لبنانية. تهافت المثقفون اللبنانيون على السفير السعودي (المثقف) فانعكس ذلك إيجابيا على صورة المملكة نفسها وتأجج التفاعل الثقافي بين البلدين.

لعل أجمل حالات (خوجة) حين يتحدث في مجلسه الخاص عن رفاقه اللبنانيين، تعجبه من الزعامة الأسطورية لوليد جنبلاط التي تستطيع أن تنقل – في لمح البصر – طائفة بأسرها من اليمين إلى اليسار من دون تمهيد أو تفسير وبلا توقف، الحواسيب العملاقة في رأس الرئيس فؤاد السنيورة ورباطة جأشه الماسية، الدهاء الملفت لميشال المر الذي سماه مرة “ميشال بن أبي سفيان” في إشارة إلى داهية العرب معاوية، التحفظ المتوجس إزاء سمير جعجع الذي تحول إلى إعجاب واحترام نظير العقل المنظم والصلابة المبدئية، الدهشة البالغة من جان عبيد المسيحي الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويعرف عن الإسلام أكثر من بعض المسلمين، التركيبة العجيبة للرئيس عمر كرامي الذي كاد أن يغطي حصار السراي لولا اتصال (خوجة) به: “أنا حزين لأن شقيق رشيد كرامي سيسلم قرار بلاده للأجنبي” لحظتها انتفض كرامي صارخا “والله لا يمكن” ولم يذهب إلى ساحة رياض الصلح كما كان مخططا. بعد انتخابات عام 2009 تفاءل (خوجة) بصديقه المفضل سعد الحريري رئيسا للوزراء “لقد اختمر سعد، تأثرت حين رأيته يتقدم شعبه في جنازة الشهيد وليد عيدو قائلا للناس أنا معكم ولكم وبكم، إنه نقي ومخلص”، لعله يتذكر تلك اللحظة كلما قابل سعد في جدة أو في الرياض هذه الأيام. لا ينسى (خوجة) الاتصالات الهاتفية التي كانت تجري بينه وبين الأمير بندر بن سلطان (أمين مجلس الأمن الوطني)، كان سفير المملكة يهاتف الأمير، وكان الأمير يهاتف السفير، على هاتف مراقب من الخصوم، يجريان حديثا سياسيا بين قيادي رفيع وسفير موثوق، وما أن تنتهي المكالمة حتى يجن خصوم المملكة في لبنان وربما في المنطقة!.

فاصل بين مرحلتين

حين تولى (خوجة) وزارة الثقافة والإعلام، لم يتحرر – في البداية – من أعباء الملف اللبناني، كانت الانتخابات اللبنانية على الأبواب، والوزير مكلف من عاهله بمتابعة الملف، كان (خوجة) قد أكد للقيادة السعودية بأن الانتخابات ستنتج نصرا حاسما لقوى 14 آذار. بعد أن قال كلامه تذكر حادثة (يلتسين) والملك فهد، كيف يراهن بسمعته المهنية على أمر في علم الغيب، ويبدو أن الله لم يخيب دعاء عبده الصالح ونجح تيار السيادة والاستقلال باكتساح. سعد العاهل السعودي بصوابية وزيره ودعاه على طائرته الخاصة في رحلة من الرياض إلى جدة ليبلغه رؤية المملكة للمرحلة المقبلة. ما أن حطت الطائرة في جدة، حتى علم الوزير بالمهمة الجديدة، مرافقة الأمير عبدالعزيز بن عبدالله إلى دمشق تلبية لدعوة بشار الأسد.

تم تكليف الأمير بالاجتماع مع الرئيس السوري، وكلف (خوجة) بالاجتماع مع وزير الخارجية نبيل المعلم. قبل انتهاء الرحلة بيوم طلب بشار الأسد الاجتماع بـ (خوجة) على انفراد، جلس الخصمان 4 ساعات متوالية، بدأ الاجتماع بقول الأسد: “قالوا لي أنك خبير بالشأن اللبناني، انا أعرف لبنان أكثر منك”، رد (خوجة): “إن معرفتي المتواضعة بلبنان لا تضاهي معرفة سيادتكم، لكنها كافية للانتصار الكاسح في الانتخابات”، حينها ابتسم بشار الأسد من مهارة الوزير في إيصال رسالته المفحمة بأرفع صيغ الدبلوماسية، لكنه لم ينسها، فقد زار العاهل السعودي دمشق بعدها بأشهر وعقد اجتماعا مغلقا مع الرئيس السوري ثم توجها إلى المأدبة المفتوحة، وقبل الجلوس توجه بشار إلى (خوجة) مباشرة ليقول له “جيم أوفر يا عبدالعزيز”. ابتسم (خوجة)، لقد نجح الملك في مصارعة الأسد لدرجة ظنه بالنصر في لبنان. مرت الأشهر وقامت الثورة السورية ليخسر بشار لبنان وسوريا نفسها. ولعل (خوجة) وهو يتابع أخبار الرئيس السوري يود أن يتصل عليه ليقول له: “جيم أوفر يا بشار”.

شهدت تلك الفترة ضياع البوصلة من قائد ثورة الأرز وليد جنبلاط، أعلن خروجه من تيار 14 آذار، كان (خوجة) برفقة الملك في إجازة بالمغرب، كلفه العاهل السعودي باستقلال طائرته الخاصة والتوجه إلى لبنان للقاء (جنبلاط). حين وصل الوزير العتيد إلى المختارة قال له الزعيم “أريد أن أحمي طائفتي، والمملكة مكانها محفور في القلب”. غادر (خوجة) قصر المختارة مشفقا على صديقه القديم ومتفهما له، لقد دخلت علاقته بالرياض في ثلاجة، ذهب وليد جنبلاط إلى دمشق، هاجم حسني مبارك بلا رحمة لدرجة احتفاله بسقوطه في ثورة 25 يناير، لكنه لم يمس الرياض مطلقا لأن قلبه وعقله فيها، ومن حسن الحظ أن الثورة السورية أعادت لـ (جنبلاط) نصف البوصلة، وبقي النصف الآخر أسيرا في ذكرى اعتداء (حزب الله) على الجبل في أحداث أيار. لكن أينما كان وليد جنبلاط وكيفما كان، فهو إن فقد البوصلة فلا يضيع الاتجاه طويلا، لأنه الزعيم التاريخي الفريد الذي نقش اسمه بماء مقدس في جبال لبنان وسهوله وتاريخه.

انطلقت أعمال المحكمة الدولية، كان (خوجة) وهو يسمع الادعاء يتهم عناصر من (حزب الله) باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه من شهداء ثورة الأرز يتذكر نصيحته لحسن نصرالله “لا أحد يريد إحراق لبنان”.

الوزير الأبيض

تولى (خوجة) وزارة الثقافة والإعلام بعد وزير ناجح ومحنك هو السيد اياد مدني، أحدث (مدني) نقلة تنظيمية وإدارية ونوعية هائلة في أروقة الوزارة خصوصا بعد انضمام الثقافة إلى اختصاصها.

كانت الوزارة تتعرض لهجوم شرس من القوى المتطرفة، استعان (خوجة) بخبرته الدبلوماسية وواجه المتطرفين باجتماع معلن مع المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء، شاع في الأوساط الإعلامية أن (خوجة) زاد مساحة البرامج الدينية في القناة الأولى وقرر إلزام المذيعات جميعا بالعباءة (مع أن ذلك غير صحيح)، فشن عليه الطرف الآخر هجوما معاكسا. آنذاك كتب بندر السليمان في صحيفة السياسي الإلكترونية مقالة بعنوان “خوجة أول الوزراء الفاشلين”، كان (خوجة) يقرأ المقالة وهو يبتسم، لم يعرف من حوله سبب الابتسامة، فبندر السليمان – نفسه – كتب في نفس الصحيفة بعد أشهر – ومن دون أي اتصال بينه وبين الوزير أو بين الوزارة – “خوجة يشبه ذلك اللاعب الذي ينتقده الجمهور طوال المباراة لكنه في اللحظة الأخيرة يسجل أصعب هدف محققا أغلى بطولة، لقد غير خوجة صورة وزير الإعلام – وصورة الوزير عموما – إلى الأبد”. فما الذي فعله خوجة بالضبط؟.

حسنا، تلقى (خوجة) دعما كبيرا من رائد الإصلاح الملك عبدالله بن عبدالعزيز، مما اتاح مساحة واسعة للحركة.

في عهد (خوجة) تم كسر احتكار النطاق الإذاعي (إف إم) الذي دام أكثر من عشرين سنة من أجل محطة واحدة فقط لصالح عدة محطات. وفي عهده فكك الوزير المؤمن بالحرية وزارته نفسها إلى مؤسسات عامة مستقلة ليصبح دور الوزارة تنظيميا في أضيق الحدود، كما رفع الرقابة المسبقة عن الصحف الدولية، ووسع التلفزيون السعودي من أربع محطات إلى 16 محطة أهمها قناة القرآن وقناة السنة التي وطدت ارتباط المسلمين في العالم بالحرمين الشريفين، إضافة إلى باقة القنوات الرياضية التي استقطبت الجمهور الشبابي السعودي بمنحة ملكية. لم يوقف (خوجة) أي كاتب ولم يقل أي رئيس تحرير ربما باستثناء حالة أو حالتين سببها قانوني جدا. طرح مشروع تأسيس مجلس أعلى للثقافة وهيئة عليا للكتاب، بنى مقرا دائما لوكالة الأنباء لأول مرة في تاريخها. أعاد الأندية الأدبية للمثقفين بالانتخابات الحرة. ونظم عمل الصحافة الإلكترونية.

في عهد (خوجة) كانت صحيفة (الندوة) تئن إفلاسا وفشلا، فدعمه العاهل السعودي لتطويرها، فظهرت في إطار مؤسسة جديدة مستقرة بمسمى (مكة). ربما حين يقرأ (خوجة) الصحيفة المكية الجديدة يتذكر أيام كان في الوزارة وكيلا، يومها رتب موعدا للسيد هشام علي حافظ مع الملك (الأمير) فهد لتأسيس صحيفة (الشرق الأوسط) ودعم المشروع معنويا من وزارة الإعلام، يتذكر حين واجهت الصحيفة الخضراء أزمات جوهرية نصيحته لصديقه هشام بأن يلجأ إلى امير الصحافة والمثقفين سلمان بن عبدالعزيز، فافتتحت (الشرق الأوسط) في تلك اللحظة تاريخا جديدا!.

وقف (خوجة) مع أهل الصحافة والإعلام من مختلف الأطياف، فمن أزمة روزانا اليامي المرتبطة بقناة إل بي سي إلى الكاتب الإسلاموي عبدالعزيز قاسم مع قناة (دليل)، وما زال قاسم يحفظ الجميل لكن روزانا تنكرت في تغريدات تويترية!. لقد شهدت حرية التعبير في عهد (خوجة) انفراجا واسعا تنفيذا لسياسات الملك عبدالله، ولم يستثن ذلك وزارة الثقافة والإعلام نفسها.

كانت إطلالات (خوجة) الإعلامية متميزة ومختلفة، فهو يصرح لصحيفة (عكاظ) بعد أن انتقد مجلس الشورى وزارته “أتفق مع أعضاء المجلس في انتقاداتهم، وربما لو كنت عضوا في مجلس لانتقدت الوزارة أكثر منهم، نحن استفدنا من النقد وسنصحح الخطأ”. وفي تصريح للعربية نت يقول للزميل فهد سعود – بعد أن رفض مجلس الشورى اقتراح فصل قطاع الثقافة في وزارة مستقلة – “أنا حزين، قطاع الثقافة مظلوم وهو يستحق أن يكون وزارة مستقلة”. ويقول الرواة أن (خوجة) في آخر عهده رفع خطابا إلى المقام السامي مطالبا بتحويل قطاع الثقافة إلى وزارة قائمة بذاتها.

كان معرض الكتاب السنوي في الرياض موعدا لنشاط المتطرفين وحقدهم، تلقى (خوجة) دعما كبيرا من الجهات المختصة لإنجاح المعرض فتم لجم المتطرفين – قام أحدهم ذات معرض بالتهجم على الوزير شخصيا – واتسعت مساحة الحرية، كان مدير المبيعات في دار الساقي مذهولا وهو يسمع وزير الثقافة والإعلام يقول له: “لماذا لم تجلبوا كتب تركي الحمد، لقد زال المنع عنها وعن كتب غازي القصيبي”. وحين طالب البعض بمنع كتاب (السعودية، سيرة دولة ومجتمع) لعبدالعزيز الخضر عن معرض الرياض صرح (خوجة): “لقد قرأت الكتاب، إنه رائع وكاتبه وطني”.

في عهد خوجة تولت سعودية – لأول مرة – رئاسة تحرير صحيفة يومية، كما أنه عين أخرى مديرة لمحطة (أجيال) التابعة للتلفزيون السعودي الرسمي، فشن المتطرفون هجوما متشنجا عليه لدعمه للمرأة، تذكر (خوجة) وهو يقرأ تصريحات شيوخ التطرف معركته الأولى معهم حين كان عميدا لكلية التربية في مكة بسبب تعزيزه لدور المرأة ودعمه لها. لم تهدأ بيانات التطرف ضده بسبب حرية التعبير التي تصونها وزارته وقراراته الإصلاحية، لكنه كان مطمئنا لأنه يطبق مشروع عبدالله بن عبدالعزيز للإصلاح.

يتواصل السعوديون اليوم مع مسؤولي الحكومة في مواقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك، تويتر، آسك) من مدراء الإدارات الصغيرة إلى ولي العهد شخصيا، يجب أن يتذكروا أن من سن هذه السنة الحسنة هو عبدالعزيز خوجة، افتتح حسابه في فايسبوك ثم تويتر وأخيرا آسك، وكانت إطلالاته دائما مختلفة، في آسك أجاب عن سائل يستفسر عن راتب الوزراء، أما حسابه في فايسبوك فقد سمته صحيفة (الشرق الأوسط) “المجلس الاستشاري الشعبي لوزارة الثقافة والإعلام”، وفي تويتر كانت إطلالته متميزة، فحين اشتد الجدال حول قيادة المرأة للسيارة غرد قائلا: “أنا مؤيد لقيادة المرأة، وخارج البلاد زوجتي وبناتي يقدن السيارة” وحين ضغطت على حسابه حملة “نبي سينما” رد عليهم ذات مرة “وأنا كمان أبي سينما”. بريد (خوجة) في فايسبوك مليء بالمفاجآت، فقد روى في مجلسه الخاص أنه بكى ذات يوم بسبب رسالة وصلته من مواطنة سعودية مقيمة في موسكو، كان والدها لاجئا في روسيا التقاه (خوجة) صدفة، قال له لقد وشى بي المغرضون فهربت من البلاد وأنا هنا تحت خط الفقر، تحدث (خوجة) مع الملك فهد ووزير داخليته الأمير نايف، وبعد التحقيق الدقيق في الموضوع ثبتت براءة الرجل وتم تعيينه في السفارة أيضا مما غير حياته حياة أسرته، قالت ابنة اللاجئ لـ (خوجة) لقد أصبحت نجمة أكاديمية في موسكو بفضل جهودك، أنا ووالدي نقرئك السلام. كان (خوجة) ينشر قصائده أسبوعيا في فايسبوك ليفاجأ بعد سنة بدراسة نقدية عن شعره كتبها أحد أصدقائه الإلكترونيين، رد عليه (خوجة): “أيها الشاب المدهش، أنت أفضل ناقد قرأت له في حياتي”. حين وقعت كارثة سيول جدة سهر (خوجة) على صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي ليتواصل مع الناس موضحا ومطمئنا.

القلب المفتوح الذي تعب

بعد أن أجرى (خوجة) عملية القلب المفتوح عام 2012، خرج من غرفة العمليات (خوجة) آخر غير الذي دخل، لمعة العينيين ضجرت، حرارة الصوت بردت، حماسة الروح تثبطت، نشاطه مكبل بالملل، ماذا جرى في غرفة العمليات؟! كل من التقى (خوجة) بعدها لمس أن شيئا ما قد تغير في شخصه. سألته ذات مرة “أين عبدالعزيز خوجة الذي أعرفه” فأجاب “هل تعلم أنني شاعر” قلت له “ومن لا يعرف” فرد “أنا شاعر، خارج الشعر أشعر بالغربة.. بالوحشة، لقد أخذتني الحياة من الشعر، والشعر حرية”. لم أفهم هذا الكلام، وباعدت بيننا المسافات، لم أطق التعامل مع (خوجة) الذي لا أعرف، حتى أن الاتصالات انقطعت تماما، إلى أن فوجئت به – في مبادرة كريمة أكبر بكثير مما أستحق – يتصل بي من باريس “فينك غايب يا سربوت” وأجرينا مكالمة مطولة ما أنهيتها حتى التفت إلى صديقي الأثير محمد علي فرحات الذي اندهش من طول المحادثة وحميميتها العاصفة “إنه عبدالعزيز خوجة، وهو أول اتصال منذ فترة طويلة، كانت حماسته متوقدة ونكتته حاضرة وألمعيته متوهجة وصوته جياشا، لقد اختتم المكالمة قائلا بأنه خرج من النفق”. بعدها بأسبوع التقيته في المملكة، كان محلقا لأنه عاد يكتب الشعر من جديد، حضر الجلسة مدير الأندية الأدبية الصديق المحترم أحمد قران الزهراني، كان (خوجة) يسخر من أولئك الذين تنكروا له وهو بعد على رأس العمل. غادرت البلاد، وشن (خوجة) آخر معاركه الوزارية – بضراوة جذرية – ضد التطرف والإرهاب مستعيدا السيف الذي تركه في بيروت يوم صرح لزاهي وهبي “جماعة الإخوان هي أم الإرهاب”، وما أن قال كلمته حتى صدر قرار الإعفاء “بناء على طلبه”، فغير (خوجة) فورا تعريفه في (تويتر) من وزير الثقافة والإعلام إلى “شاعر سعودي”. ويا لها من مصادفة عجيبة، أن تطغى كاريزما (خوجة) الإنسانية على كل مناصبه ثم تنطفئ تلك المواقع بعده.

إن (خوجة) الناجح والإنسان، هو الذي دفع الناس للالتفاف حوله بعد التحلل من عباءة الوزارة والعمل الرسمي، فمشاعر أغلب الناس لم تنقلب، ودعوات التكريم لم تنقطع، وذكره الحسن تلهج به الألسن، وكم يتذكر السعوديون وزراء نسيهم الناس بعد أضواء المنصب، لكن (خوجة) قدم لحياته وهو يجني الثمار. وهذه شهادة مني – بعد أن أنفض السامر وانطفأت الأنوار وغادر كل إلى منزله بحثا عن السكون – أزعم أنه لن يتمكن أحد من سرد دقائقها كما أفعل بحكم الثقة والجميل والمحبة التي تنعمت في جنانها من خلال معرفتي بالوزير السفير الإنسان منذ كان في المغرب بهدية من الصديق الغالي نجيب الزامل، لذلك كان كاتب هذه السطور هو أكثر من أجرى معه لقاءات صحافية وأول لقاء تلفزيوني بعد الوزارة.

حاول خصومه الثأر منه بتعكير العلاقة بينه وبين مليكه فأشاعوا بأنه استقال اعتراضا على سياسات الدولة داخليا وخارجيا، هاتفته لأطالبه بالرد على المرجفين، فقال لي “إنهم مغتاظون، دعهم يلعبون، القيادة تعرفني مخلصا وأنا أعرفها ثمينة كالذهب ناصعة كالألماس”. لكن الصوت الذي سمعته لم يكن صوت (خوجة) وزير الثقافة والإعلام أو صوت سفير المملكة في بيروت، إنما صوت السفير السعودي المتألق في المغرب، وكأن عودته إلى الشعر أهدته شبابا بعقد من الزمن. ليس هناك سر، إنه يكتب الشعر في صومعته العامرة بالخيال وبالجمال وبالأكوان الخفية.. الواسعة والمتناثرة والمتنوعة، وكلما بدأ في كتابة قصيدة قال بصوت مسموع “اقترب الفرج”!.