نسأل هل يتواضع الراعي ويأخذ العبر؟/ مقالة لمحمد السماك تحت عنوان ثورة في الفاتيكان

629

ثورة في الفاتيكان
محمد السماك/المستقبل
31.12.14

أطلق البابا فرنسيس ثورة في الفاتيكان لم يسبقه اليها أي بابا من قبل. ولّدت هذه الثورة ظاهرة إيمانية مسيحية جديدة. فقد ارتفع عدد رواد الكنائس الكاثوليكية حول العالم بعد سنوات عانت الكنائس خلالها من تراجع عدد المصلين فيها حتى تحول بعضها الى متاحف أو صالات لعرض الأعمال الفنية. وفي الأرجنتين البلد الذي يتحدر منه البابا، ارتفع عدد الذين يعتبرون أنفسهم مؤمنين بنسبة 12 بالمئة.

وفي بريطانيا حيث يعتبر نصف البريطانيين أنفسهم غير مؤمنين بأي دين، فان ثلث البريطانيين ينتسبون الى الكنيسة الانكليكانية، فيما تضم الكنيسة الكاثوليكية 9 بالمئة فقط من البريطانيين، اي ما يعادل 5،6 مليوناً. غير ان عدد الذين يحضرون قداس (صلاة) يوم الأحد في الكنائس الكاثوليكية الآن، يزيد على عدد الذين يشاركون في الصلاة في الكنائس الانكليكانية.

وقد بلغت ثورة البابا الولايات المتحدة بالذات. فقد عزل البابا فرنسيس كبير أساقفتها الكاردينال ريموند بيرك من عضوية مجلس الأساقفة الذي يشكل أعلى هيئة روحية في الفاتيكان وذلك بسبب مواقفه المتشددة ضد الاجهاض وزواج المثليين. كان الكاردينال بيرك يرفض السماح لهؤلاء بالمشاركة في الصلاة، وحتى في دخول الكنيسة. لا يعني ذلك ان البابا يوافق على الاجهاض أو على زواج المثليين، ولكنه لا يرى فائدة من التركيز على هذه القضايا بتشدد يقطع التواصل الروحي مع ضحاياهما ويعزلهم تماماً عن الكنيسة.

ولم يقتصر اجراء البابا على عزل الكاردينال بيرك، ولكنه عمد الى تعيين الكاردينال ليونارد بلير خلفاً له. وفي ذلك مؤشر آخر الى ثورته الروحية. ذلك ان الكاردينال بلير اتخذ موقفاً ضد قرار الكاردينال بيرك بعزل عدد من الراهبات الكاثوليكيات الأميركيات على خلفية مواقفهن الاجتماعية الدينية. كان طبيعياً ان يؤدي هذا الموقف الجريء للبابا فرنسيس الى استقطاب فئة كبيرة من الليبراليين الكاثوليك في الولايات المتحدة الذين ضاقوا ذرعاً بالقيود المتشددة التي كانت تفرضها الكنيسة عليهم.

ولكن ثورة البابا ليست روحية فقط. انها سياسية ايضاً. فهو يوظف نجاحه في الأولى ليخوض غمار الثانية، انطلاقاً من مؤسسات دولة الفاتيكان ذاتها، وتحديداً ما يعرف «بالكوريا» أي الجهاز الحكومي.

بدأت ثورة البابا فرنسيس بالادارة المالية، وهي الادارة التي تشرف على البنك المركزي الفاتيكاني (الذي يملك عائدات تبلغ قيمتها 8 مليارات دولار)، وعلى ادارة ممتلكات الدولة التي لا تقدر بثمن- وتسديد رواتب موظفيها، وحتى ادارة السوق الحرة داخل الفاتيكان المخصص لاعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين وعائلاتهم. وتتالف هذه الادارة المالية من خمسة أعضاء جميعهم من ايطاليا. وبموجب الترتيبات الادارية المعتمدة تنتهي فترة انتدابهم في عام 2016. الا ان البابا اتخذ قراره بإنهاء خدماتهم فوراً. واختار بدلاً منهم خمسة من الخبراء الدوليين في الادارة المالية منهم جوزف بوفاراج بيلاي فيلسوف المعجزة الاقتصادية في سنغافورة، وجوان زارات المستشار المالي السابق للرئيس الأميركي جورج بوش الابن.

جاء قرار البابا بعد تقرير مفصل قدمه اليه رئيس وحدة المخابرات المالية في امارة ليشتنشتاين يدين فيه سوء أمانة وسوء سلوك الادارة الحالية.

والواقع ان بنك الفاتيكان ومنذ عام 1980 تورط في سلسلة من الفضائح المالية منها افلاس بنك امبروسيانو الذي عثر على رئيسه مشنوقاً فوق جسر في لندن. وقد ثبت أن موته لم يكن انتحاراً بل جريمة قتل. يومها صدرت مذكرة توقيف بحق حاكم البنك المركزي الفاتيكاني الأسقف بول مارشينكوس بتهمة المشاركة في عملية افلاس احتيالي.. الا انه احتمى بحصانته الدينية ولم يحاكم !

وتوالت أحداث مشابهة حتى انه في عام 2012 أصدرت السلطات المالية في الاتحاد الأوروبي قراراً أدانت فيه البنك المركزي الفاتيكاني بانتهاك سبعة مبادئ من اصل 16 مبدأ تتعلق بتنظيم عملية منع تبييض العملة. ونتيجة لذلك توقف العديد من البنوك الأوروبية عن التعامل مع البنك الفاتيكاني حرصاً على سمعتها. حتى انه في العالم الماضي 2013 بادر البنك الألماني «دويتش بنك» الى توقيف العمل ببطاقات الائتمان الصادرة عن بنك الفاتيكان، كما أغلق 80 مصرفاً آلياً تابعاً له.

من أجل ذلك اعتبر البابا ان المدخل لثورته داخل ادارة الفاتيكان هو البنك المركزي. فبادر الى تجريد الكاردينالات الخمسة المولجين بالإشراف على البنك من مخصصاتهم المالية التي تبلغ 42 الف دولار في العام لكل منهم. ولما لم يؤد هذا الاجراء «التأديبي» الى النتائج التي كان يتمناها، عمد في كانون الثاني يناير الماضي، اي بعد عشرة أشهر الى إعفاء اربعة كاردينالات منهم تماماً من كل مهماتهم. وعين أسقفاً رئيساً جديداً للبنك المركزي.. وعهد الى مؤسسة اميركية متخصصة للتدقيق في 19 ألف حساب. وقد واجهت المؤسسة الأميركية صعوبات تعجيزية في عملها اذ رفض اصحاب الحسابات التعاون معها. فلدى سؤال اي منهم من اين لك هذا ؟ كان رده : «أنا أجيب أمام الله وليس أمامكم «.. ونتيجة لعمل لجنة التحقيق تمّ إقفال 1600 حساب !!

راودت البابا فرنسيس فكرة اقفال البنك المركزي كلياً. الا انه تراجع عن ذلك بعد أن تبين له ان للبنك مهمات مفيدة اذا ما أعيد تنظيمه وتنظيفه. ففي السبعينات من القرن الماضي استخدم البنك ادارة لتمويل الحركات المعادية للشيوعية في دول أميركا الجنوبية حيث خزان الكاثوليكية في العالم. وفي الثمانينات استخدمه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لتمويل حركة التضامن في بولنده التي وقفت ضد الاتحاد السوفياتي، والتي كان لمقاومتها فضل السبق في سقوطه فيما بعد. واليوم يحتاج الفاتيكان الى البنك المركزي لتمويل الأساقفة ومؤسساتهم المنتشرة في العالم وخاصة في الدول التي تفتقر الى نظام مصرفي موثوق به.

ويحوّل بنك الفاتيكان المركزي سنوياً ما مجموعه ثلاثة مليارات دولار. والآن يبحث البابا، صاحب شعار: «كنيسة فقيرة من أجل الفقراء» عن معادلة تضمن عدم سوء استعمال هذا المال في عمليات تبييض العملة، كما جرى مرات عديدة في السابق.

ففي الوقت الراهن تجري محاكمة واحد من كبار المسؤولين الاداريين في الفاتيكان المونسينيور (الأسقف) نانزيو سكارانو الذي عمل طوال 22 عاماً مسؤولاً عن ادارة ممتلكات الفاتيكان وتسديد رواتب الموظفين. وهو لا يزال موقوفاً بتهمة الفساد وتبييض العملة.

ويشار اليه بلقب «اسقف الخمسمئة» لكثرة استخدامه ورقة الخمسمئة يورو في المحلات التجارية والأسواق العامة !! وهو يملك فيلات وتحفاً فنية نادرة. وكان القضاء الايطالي المدني نفسه، سبق الفاتيكان الى ادانته بتهريب الملايين من بنك الفاتيكان الى سويسرا لمساعدة أصدقاء له على التهرب من دفع الضرائب. ولا تزال القضية مطروحة أمام القضاء بعد أن اتسعت لتشمل عدداً آخر من كبار موظفي ومسؤولي البنك المركزي الفاتيكاني!!

ويجري الوقت الراهن أيضاً التحقيق مع شخصية دينية سياسية كبرى هو الكاردينال فرانسيسكو برتوني الذي يتمتع بنفوذ كبير في الفاتيكان منذ عهد البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. فهو متهم باقتراض 200 مليون دولار من أموال البنك المركزي الفاتيكاني لتوظيفها في شركة استثمارية. الا ان المبلغ فقد تماماً !! وبانتظار الكشف عن الحقيقة في هذا الأمر الخطير يكتفي البابا فرنسيس بالقول : «ان القضية تحت الدرس. الأمر ليس واضحاً تماماً بعد. ولكن ربما يكون صحيحاً. ولكن حتى الآن لا شيء حاسم بعد«.

تشكل هذه الحالات الشاذة حافزاً للبابا لاتخاذ مواقف ثورية اصلاحية اخرى من شأنها أن تزيد من قلق العناصر الفاسدة في الادارة الحالية أو من تبقى منها. ذلك ان هذه الادارة المالية السياسية ما تعودت أن يقوم البابا باجراءات تغييرية من خارجها، وبكيفية تدينها أو تشكك في قدرتها وفي اخلاصها للكنيسة.

من هنا السؤال : هل يتمكن البابا فرنسيس من المضي قدماً في ثورته ؟ وهل تنجح الثورة؟

ان التصدي للادارة الداخلية «الكوريا» لا سابق لها في تاريخ الفاتيكان. ولذلك فانها ليست عملية سهلة. غير ان الشعبية الواسعة النطاق التي حققها البابا فرنسيس منذ تبوئه السدة البابوية تشكل قوة دفع لثورته التغييرية. كما ان سلوكه الشخصي المتعفف الى حد التصوف وتواضعه الجم يزيد من قوته المعنوية في مواجهة العناصر التي هيمنت على أوضاع المؤسسات الفاتيكانية ردحاً طويلاً.

لقد تمتعت هذه العناصر بسلطة مطلقة.. فوقعت في الفساد المطلق. واي فساد أسوأ من ذلك الذي يجري من وراء مذبح الكنيسة.. او منبر المسجد؟!