الكولونيل شربل بركات/أكذوبة التحرير والوضع في جنوب لبنان بين 1988 واليوم

686

أكذوبة التحرير والوضع في جنوب لبنان بين 1988 واليوم
الكولونيل شربل بركات/25 أيار/2022

بعد مرور 22 سنة على الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان بات من الضروري نشر بعض ما يعرفه ابناء المنطقة الحدودية من معلومات حول تلك المرحلة. ومن هنا يجب وضع النقاط على الحروف خاصة لأن حزب الله لم يرتدع أو يتأقلم مع الوضع اللبناني ولا هو استفاد من التغطية على تصرفاته الشاذة ليعود إلى لبنانيته، فيشعر الشيعة بالولاء أكثر للبنان كما كان شعور المسيحيين والدروز يوم حكموا البلد، ولكنه تجبّر وأخذ اللبنانيين إلى مكان غير مقبول بزرع الحقد ونشر الفوضى وتعزيز الانغلاق وتعميم التبعية لمحتل جديد على الكثير من الفئات اللبنانية بسبب أكذوبة التحرير التي نادى بها ولم يردعه عنها أحد.

منذ بدء انسحاب الجيش الاسرائيلي بعد 1982 واجه لبنان مشكل كبير خاصة في منطقة الشوف والتهجير الذي لحقه. ومن ثم أدت المرحلة الثانية من الانسحاب إلى تهجير قرى الأقليم وشرق صيدا. ولولا وقوف جيش لبنان الجنوبي موقفا مشرفا في الدفاع عن جزين لكانت تلك المنطقة تهجرت ايضا يومها. هذه الأحداث دعت قيادة الجيش الجنوبي إلى وضع خطة لحماية القرى الموازية للحدود اللبنانية الاسرائيلية والتي كانت قاومت الفلسطينيين بين 1975 و1982 ونسقت مقاومتها تلك مع الجار الاسرائيلي لتأمن عدم قيامه باحتلال الجنوب بشكل مباشر وتهجير أهله كون هناك من يؤمن الاستقرار من الطرف اللبناني ويتحمل وزر عمليات الخارجين عن القانون يومها، فالدولة اللبنانية الغائبة، وبعد توقيعها اتفاق القاهرة الذي ألغى مفاعيل اتفاقية الهدنة الموقعة سنة 1949، سمحت باستباحة الأرض اللبنانية وجعلتها ساحة معركة أدت إلى تهجير الجنوبيين من أرضهم، ولكن وقوف القرى الحدودية موقفا ثابتا في الدفاع عن الأرض والحق والجيرة الحسنة، منع تهجيرهم من بيوتهم لا بل سمح، بعد 1978 وعملية الليطاني، بانتشار قوات من الأمم المتحدة واستتباب نوع من الأمر الواقع أعاد إلى المنطقة بعض الاستقرار والحياة شبه الطبيعية.

ولكن البقاء في جزين ومنطقتها تطلب خط امداد بينها وبين مرجعيون وهذا ما جعل منطقة جبل الريحان منطقة حساسة نوعا ما بسبب قلة السكن فيها، وحتى بوجود بلدة العيشية التي كان سكانها تحمّلوا المجازر والتهجير ايام السيطرة الفلسطينية ولم يسمح لهم السوريون بالعودة لاعمارها إلا بعد انسحابهم منها على أثر دخول اسرائيل في 1982، وقد بقيت ايضا منطقة حاصبيا وشبعا ضمن المنطقة الحدودية ما ساهم بزيادة الاستقرار واعطائها وجه لبنان التعددي باضافة المزيد من الدروز والسنة على المركب الأساسي للمنطقة من الشيعة والمسيحيين. ولكن كان هناك تخوّف من عودة الاعتداءات على القرى الآمنة ولذا فقد حصّنت بعض المواقع لتحمي المواطنين العابرين على الطرق أو العاملين في أراضيهم الزراعية وحتى القرى نفسها أحيانا.

وكان الجيش الجنوبي ملتزما بمنع الاعتداء على سكان المناطق المتاخمة والقرى المواجهة باعتبارها قرى لبنانية تقع ضمن منطقة انتشار قوات الأمم المتحدة. ولكن الحزب الإيراني انتقل من العمليات الانتحارية الاستعراضية بواسطة السيارات المفخخة، إن ضد القوات المتعددة الجنسية في البدء أو على بعض مداخل المنطقة لاحقا، إلى مهاجمة المراكز العسكرية للجيش الجنوبي والتي نجح في الاقتراب من بعضها أحيانا. ومن هنا توتر الوضع الذي أثر على المدنيين في الطرف الآخر. وهذا ما حدا بالسيد عبد المجيد صالح (الذي انتخب نائبا فيما بعد)، وكان مسؤول حركة أمل في صور يومها، لأن يطلب تدخل الأمم المتحدة لسحب مركز “الحقبان” الذي يشرف على بلدته ياطر ويمنع تحرك المواطنين بين ممتلكاتهم كلما قامت أي عملية من قبل الحزب الإيراني.
كانت بيت ليف وصربين تقعان جنوب خط القنن الذي يحميه موقع الحقبان والذي يشرف بشكل مباشر على قرية ياطر، وفي حال انسحاب الجيش الجنوبي من هذا الموقع سوف ينقلب الوضع بتهديد أبناء هاتين البلدتين، وبما أن لأهالي ياطر أراضي تشرف على البلدتين تم الاتفاق مع حركة أمل على سحب هذا الموقع إذا ما تكفّل أبناء ياطر بمنع استعمال أراضيهم لمهاجمة سكان ومزارعي البلدتين المذكورتين وبالتالي منع أية عمليات عسكرية انطلاقا من ياطر. وبعد الاتفاق على هذه النقطة انسحب جنود الجيش الجنوبي من موقع الحقبان ليتركزوا في جبل حميد أي الخط الخلفي الموازي والذي يشرف على نفس المنطقة. وكان فرح كبير في ياطر لا بل قدّر الأهالي فيها هذه الخطوة وتدخل المراقبين الدوليين الذين يعملون في فريق UNTSO ومساهمتهم بشكل أو بأخر بتأمين هذا الانفراج.

من هنا اعتبر حزب إيران بأن فريق المراقبين الدوليين يقوم بحوار بين المنطقتين يمكن أن يؤمن الاستقرار ما لا يقبل به الحرس الثوري. فكان قرار خطف الكولونيل “ويليم هيغنز” قائد هذا الفريق وهو عائد من زيارة قام بها للسيد عبد المجيد صالح في مركزه بمدينة صور. وهذا ما دفع حركة أمل لمساندة قوات الأمم المتحدة بالتفتيش عن الضابط المخطوف وطرد كل من له علاقة بحزب الله في منطقة الجنوب خلال شتاء 1988 ما جعل الأوضاع تستقر ويسود الهدوء.

ولكن ما جرى في بيروت من أحداث تطورت إلى ما سمي “حرب التحرير” وبالتالي التحاق سوريا، ولو رمزيا، بالقوات التي حاربت الرئيس صدام حسين لتحرير الكويت، ومن ثم التحول الذي أدى إلى اتفاق الطائف وبعده “حرب الالغاء” وما تلاها من سيطرة سوريا على كامل الأراضي اللبنانية، غيّرت الأمور على الأرض، فطلبت سوريا حل كل المليشيات وتسليم سلاحها ومن ضمنها الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية وحركة أمل، وذلك بناء على اتفاق الطائف بينما أبقت على حزب الله وحده تحت شعار ما سمي “بالمقاومة” ليعود ويسيطر على الأرض شيئا فشيئا ويتحكم بالمنطقة التي كانت حررتها منه حركة أمل.

ولكي تضمن بقاءه بجانبها، اطلقت سوريا يد الرئيس بري في السياسة المحلية والتوظيف والاستفادة من مشاريع الدولة فقبل بالتخلي عن دور أمل العسكري على الأرض في الجنوب، وكذلك فعلت باعطاء السيد جنبلاط سيطرة كاملة على ملف المهجرين والصندوق الممول لهذه العملية. ثم قامت بسجن رئيس الحزب المسيحي القوي الدكتور جعجع وحلت حزبه بعدما سلّم سلاح القوات اللبنانية بحسب الاتفاق. وهذا ما جعل حزب الله يصبح المسلح الوحيد على الساحة اللبنانية ويسمح بعودة التوتر إلى الجنوب خاصة بعد العمليات التي جرت فور توقف محادثات “السلام المزعوم” في مدريد بين سوريا واسرائيل فكانت الصواريخ التي اطلقت من لبنان على مدن اسرائيلية هي الرد السوري على فشل التوصل إلى سلام، ما استتبع رد اسرائيلي بما سمي عملية “الحساب” والتي قامت بها اسرائيل في تموز من سنة 1993 وادت إلى دمار في الجانب اللبناني. ولكن في نفس الوقت اعلان سيطرة حزب الله على الأرض وتفرده بقرار الحرب والسلم في لبنان، بالطبع بالتنسيق مع قوات الاحتلال السوري.

كان الاتفاق بين سوريا ولبنان من جهة واسرائيل من جهة ثانية اعتراف بحزب الله من قبل اسرائيل والدول الكبرى التي رعت الاتفاق وطالبت حكومة لبنان وسوريا بضبطه وإلا فلاسرائيل الحق بالرد. ولكن في أيلول من نفس السنة أي 1993 تم الاعلان عن اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين واسرائيل والتي اعتبرت صفعة لسوريا. ومن هنا كان تمسّك السوريين أكثر فأكثر بورقة حزب الله هذا ودفعهم لزيادة التوتر على الحدود كون اسرائيل من خلال التوصل للاتفاق مع الفلسطينيين، وبعد أن كانت مصر قد وقعت سلاما منفردا معها وبالتالي الأردن الذي لحق بالفلسطينيين في توقيع السلام، سوف تنعم بسلام حقيقي سيجر بلادا عربية أخرى إلى اللحاق بالركب ما سيعزل سوريا ويحرمها من قيادة العرب بحسب نظرية “الصمود والتصدي” التي كان أطلقها الرئيس الأسد إثر زيارة الرئيس السادات لاسرائيل في 1978 والتفاوض على السلم وما تبعه من اتفاقيات كمب دايفيد.

بعد أقل من ثلاث سنوات عادت اعتداءات حزب الله والقصف على اسرائيل لتصبح شبه متواصلة، ما أدى إلى عملية ثانية سميت “عناقيد الغضب” في نيسان 1996 والتي كان أهم ما وصلت إليه التفاوض المباشر مع حزب الله وتخلي الدولة اللبنانية كليا عن دورها السيادي على الأرض وعن ملف العلاقات الخارجية، فاتخذت موقف المتفرج وتركت الحزب وسوريا يقرران ويتفقان مع اسرائيل على عدم الاعتداء على المدنيين الاسرائيليين.

وهكذا سقط دور الدولة اللبنانية من خلال تخليها عن مسؤوليتها تجاه أبناء الجنوب وقبولها بالتفرج على مصير اللبنانيين، بينما سوريا وأيران تخططان للسيطرة على المنطقة ومفاتيحها من جراء عمليات حزب الله ومآسي الجنوبيين، وذلك بخلق حالة من العنف للضغط على السكان للقبول باي حل يؤمن توقف هذا العنف، ولو لم يؤدي إلى الاستقرار. ومن هنا سيطرتهم والحرس الثوري شيئا فشيئا على مصير الأهالي واقتناع بقية اللبنانيين بأن هذا الحزب يقوم بدور المواجهة، بينما هو من يتسبب بكل مصائبهم. وما جرى في الجنوب، وبعد تخلي المسؤولين اللبنانيين عن أبنائه وتسليمهم لحزب الله وسوريا وبالتالي للحرس الثوري، جرّ في النهاية إلى اتفاق اسرائيل معهم على ضبط حدودها مقابل اطلاق يدهم في لبنان ليظهروا بمظهر المحرر سنة 2000 وبالتالي تبدأ سيطرتهم على البلد ككل ووقوف المواطنين الذين لا يقبلون بمجاراتهم فارغي الأيدي غير قادرين على المواجهة ولا على تغيير القرار.

سنة 2004 صدر عن مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي يشمل ضمن بنوده حل ميليشيا حزب الله وتسليم سلاحها للدولة، فعاد الحزب لارهاب اللبنانيين بمسلسل جديد من الاغتيالات بدأ بالرئيس الحريري. ومن ثم وبعد انسحاب السوريين قام بالاعتداء على اسرائيل بمحاولة اختطاف جنود من داخل حدودها في تموز 2006 بناء على مخطط، أعد في طهران ونفذ من قبل عماد مغنية باشراف قاسم سليماني قائد الحرس الثوري آنذاك وباعتراف السيد حسن نصرالله، لاجبار اسرائيل على الرد كما حدث في المرات السابقة، اي عمليتي “الحساب” و”عناقيد الغضب”، وذلك للظهور مجددا بمظهر الضحية بالرغم من كل المآسي التي يتعرض لها لبنان وشعبه، خاصة في الجنوب، ومن دون أن يرف جفن لهؤلاء الذين يتاجرون بدماء اللبنانيين وممتلكاتهم.
وقد استعمل هذا الحزب فيما بعد لمساندة النظام العلوي في سوريا على تفريغ البلاد وتهجير سكانها ومحاولة استقدام سكان مساندين للإيرانيين وتوطينهم مكانهم ما أرهق كاهل لبنان بمليون ونصف لاجئ سوري وبداية لمسلسل جديد فيه. وبالتالي يوم قررت إيران اسقاط البلد وافقار سكانه لتسهيل طردهم منه بدون قتال، وربما تكرار عملية الاستيطان التي تحدث في سوريا، كان لها ذلك بواسطة نفس الحزب وعملياته في كل مجال؛ من استعداء العرب، إلى عمليات التهريب وتبييض الأموال في بلاد متعددة أدت إلى فرض العقوبات على بعض الكيانات والاشخاص، ومن ثم ضرب الاستقرار المالي، وتفجير المرفأ لتزيد من أجواء الخوف والفوضى فتدفع باللبنانيين الذين عاشوا مرحلة مزدهرة للتعجيل بالهروب.

هذا الوضع، الذي هو نتيجة للتسليم بالأمر الواقع بدون محاولة فهم ما يدور وإلى أي هدف يعمل أزلام الحرس الثوري هؤلاء، وهم أنفسهم لا يدرون في كثير من الأحيان بل ينفذون الأوامر لأنها آتية من “الولي الفقيه” بحسب ما يقول من يدعون قيادتهم، قد يستتبع تنازلا عن الحقوق وسيطرة على مؤسسات الدولة ما يؤدي إلى تشريع استيلاء الحزب على كل مفاصلها والتحكم بمواردها كما هو حاصل في العراق مع الحشد الشعبي أو في اليمن بواسطة الحوثيين.
فهل يفهم اللبنانيون خطورة الوضع ويوقفون المهزلة؟ أم أنهم لا يزالون يعيشون مرحلة الحلم “بالتحرير” وما جرّ عليهم من مآسي وبطولات وهمية؟.. وهل مع التغيير في العقلية الذي بدأت بوادره تظهر في نتائج الانتخابات النيابية سوف يصر اللبنانيون على الانتهاء من أكذوبة التحرير تلك ومفاعيلها والاصرار على تسليم سلاح الحزب وغيره من المدعين بالمقاومة والانتهاء كليا من مفهوم الساحة الذي أوقف تطور لبنان وأدى إلى تقهقره وخسارته دوره الفاعل ورسالته الكبرى في تقريب وجهات النظر وتفاهم المختلفين للسير معا في مجالات التطور والحداثة؟.. وهل سيصر اللبنانيون على الحياد المعترف به من كل الدول المحيطة ومن المجتمع الدولي والأمم المتحدة؟.. أم أننا سنبقى على اجترار نفس الأوهام والتسليم لعملاء إيران باستقوائهم بالسلاح وفوقيتهم الفارغة والمتعجرفة وقيادتهم البلاد نحو الدمار؟..