الياس الزغبي/في القتال التراجعي

279

الياس الزغبي – في القتال التراجعي

لبنان الآن/21.12.14

في قياس موازين القوى اللبنانيّة، يمكن الاستدلال من الوقائع الجارية، أنّ فريقَي 8 و 14 آذار، يخوضان نوعاً من القتال التراجعي عن خطّ المواجهة الأوّل إلى خطوط خلفيّة أكثر حصانة وثباتاً، في اعتقادهما.

ففريق “حزب الله”، بجميع مكوّناته، يعود من سياسة الانقلابات التي مارسها منذ ال2006، إلى سياسة الحوار والبحث عن مساحة مشتركة مع خصومه، مرتاحاً إلى تحييد موضوع سلاحه وحربه في سوريّا، وكذلك المحكمة الدوليّة.

وفريق 14 آذار، خصوصاً “تيّار المستقبل”، يحيّد موقتاً السقوف العالية تلك، مرتاحاً إلى إمكان قضم إنجازات إجرائيّة داخليّة مثل الهدنة السياسيّة والاستقرار المذهبي والرئاسة والانتخابات، كما بات معروفاً.

لكنْ، إذا أنعمنا النظر في هذا القتال التراجعي المزدوج، نلمس فارقاً جوهريّاً بين الطرفين، بحيث أنّ الفريق الأوّل(8 آذار) يسلّم بعض أوراقه في الداخل بدون أيّ حصانة لورقته الخارجيّة، أي القتال في سوريّا والاستمرار في تفرّده بالقرار واستباحة الحدود والشرعيّات اللبنانيّة.

بينما الفريق الثاني(14 آذار) يتخلّى موقتاً عن طرح ورقة “حزب الله” الخارجيّة لمصلحة بناء المؤسّسات الشرعيّة، مع بقائها حيّة يمكن تحريكها في أيّ لحظة، سواء مسألة السلاح غير الشرعي، أو تحييد لبنان عبر “إعلان بعبدا” والخروج من الوحل السوري.

وهكذا يكون “حزب الله” يتراجع (أو يخسر) في الداخل، بدون أن يربح في الخارج، لأنّ ما يظنّه غطاءً داخليّاً من خلال حواره مع “المستقبل”، لن يقدّم أو يؤخّر في مأزقه السوري. فحربه في سوريّا شأن مرتبط بالقرار الإيراني، وخاضع لعمليّة البيع والشراء بين طهران وواشنطن وحلفائهما. والعنوان الأبرز لخسارة “8 آذار” هو موضوع رئاسة الجمهوريّة. فقد بات واضحاً، وربّما محسوماً، في تقاطع العوامل الداخليّة مع المثلّث الفرنسي – السعودي – الإيراني، أنّ الجميع متّجه إلى رئيس توافقي يُنهي عقدة ميشال عون. وما الحديث عن لقاء سيجمعه مع سمير جعجع سوى غطاء أو مخرج لحلّ هذه العقدة.

ولا يغيّر استمرار عون في رفضه أيّ رئيس سواه شيئاً من معادلة الحلّ المطروح.

وهناك مؤشّر آخر إلى هذا الاتجاه، هو الزيارة السياسيّة من “حزب الله” للرئيس ميشال سليمان، تحت عنوان التعزية، بعد طول جفاء وهجاء. ولا أحد يجهل أنّ سليمان يساوي تحديداً “إعلان بعبد”!

وفي ملفّ قانون الانتخابات النيابيّة، بات “حزب الله” محكوماً بمشروع حليفه نبيه برّي، أو بما يشبهه من المشاريع المختلطة (بما فيها مشروع “القوّات” – “المستقبل”- “الاشتراكي”)، بحيث يتجاوز نهائيّاً مشروع عون المثلّث الرحمات.

وإذا كان قد اغتبط، في سرّه، بقرار سعد الحريري فكّ قضيّة المحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان عن الحوار الداخلي، فهذا الأمر يشبه إلى حدّ بعيد تورّطه في سوريّا: فلا يد للحريري وسواه في مسيرة المحكمة وشهاداتها وإجراءاتها وقراراتها، ولا شيء يُنقِص أو يزيد في أدائها وأحكامها.

وبذلك، لا يظهر أين سيحقّق فريق “8 آذار” كسباً من خلال التقارب الداخلي، خارج حسابه الوهمي في أنّ الحوار سيجعل حربه وسلاحه فوق النقاش، وخارج الوهم الآخر بأنّه مع عون سيكون “صانع الرئيس”.

ففي السابق كان يحاور أو يناور أو “يتنازل” لتغطية أمر ما، ثمّ يتنصّل.

الآن، لا مساحة للمناورة، ولا يمكن تغطية أيّ عري. وتالياً، لا أفق للتنصّل.

فالقتال التراجعي الذي يقوم به فريق “14 آذار” يُبقي عمليّاً على خطّه القتالي الأوّل، ولو للبحث لاحقاً، بينما قتال “حزب الله” سيؤدّي إلى تراجع على أكثر من جبهة داخليّة، وبقاء أزمته الخارجيّة على تفاقمها، ولو تحت ستار دخاني من الحوار، لا يُسمن ولا يُغني في حرب ليس هو صاحب القرار فيها، وفي محكمة خارج إرادته وإرادة مُحاوره.

ولا تنفع كثيراً التسريبات المخابراتيّة، مرّةً عمّن اغتال الشهيد محمّد شطح، ومرّات أخرى في مسألة العسكريّين المخطوفين، فهي مجرّد محاولات في القتال التأخيري وتأجيل التراجع.

بين انقلاب 2011 وحوار 2015، جرت مياه كثيرة تحت جسور الوضع اللبناني.

“حزب الله” بثياب الأمّهات السود اليوم، هو غيره ب”القمصان السود” أمس.

لقد انتهى زمن الانقلابات وبدأ زمن الحسابات. فليبدأ حوار العقول والدروس، معاً.