غسان صليبي/النهار: بؤس نموذج المواطن اللبناني الناجح والتابع للسلطة الذي جسّده جورج قرداحي

80

بؤس نموذج المواطن اللبناني الناجح والتابع للسلطة الذي جسّده جورج قرداحي

غسان صليبي/النهار/06 كانون الأول/2021

تجاوز الاتفاق السعودي الفرنسي في شأن لبنان كل التوقعات المتفائلة، بما ورد فيه من استعداد سعودي لمد يد العون للشعب اللبناني، بالتنسيق مع فرنسا.

تخيّلتُ المشهد على الشكل الآتي: “في طريقه إلى الخليج لإتمام عقود تجارية تدعم ماليا خزينة الدولة الفرنسية على مشارف الانتخابات الرئاسية التي سيخوضها مجددا، يتذكر ماكرون مصائب دولة اسمها لبنان كانت تقع تحت الانتداب الفرنسي ولا يزال لفرنسا فيها بعض المصالح، فيتصل بميقاتي ويطلب منه الحصول على استقالة جورج قرداحي، لعله ينجح في استخدامها مع السعودية في مسعاه لترميم العلاقة بينها وبين لبنان.

ميقاتي يتصل بـ”حزب الله” الذي كان يرفض استقالة قرداحي، ويبلغه بالمسعى الفرنسي. فيتصل “حزب الله” بمرشد الجمهورية الايرانية، دولة الانتداب الحالية، ويطلعه على ما طلبه رئيس دولة الانتداب القديم.

الانتداب الجديد يطلب من “حزب الله” أن يبلغ ميقاتي ان عليه الاتصال بالانتداب القديم والتمني عليه الاتصال المباشر بالانتداب الجديد لمناقشة الموضوع. الاتصال بين الانتدابَين يؤدي إلى تقديم الانتداب الجديد خدمة للانتداب القديم  مقابل خدمة ستتوضح طبيعتها لاحقا، ولا سيما أن استقالة قرداحي لن تقدم ولن تؤخر في المسألة الحكومية، فالأهم هو “قبع” القاضي البيطار.

“حزب الله” يتصل بميقاتي ويبلغه بالخبر السعيد، كما يتصل بالأسد رئيس دولة الوصاية السابقة على لبنان، ويتمنى عليه التعاون معه لإقناع فرنجيه. فيتصل الأسد بفرنجية الذي يريد تقديم خدمة لـ”حزب الله” على مشارف الانتخابات الرئاسية اللبنانية، فيطلب فرنجيه من قرداحي الاستقالة.

قرداحي المغلوب على امره يستجيب ويقدم استقالته، محافظا بقدرة قادر على ابتسامته التي ترافقه عادة عندما يربح احدهم المليون.

في زيارته للسعودية يكتشف ماكرون أنها متحمسة مثله لعودة العلاقات مع لبنان بعد أن أصبح كليا في أحضان إيران، وكانت تفتش عن فرصة مؤاتية لعودة مظفرة، فجاءتها تصريحات قرداحي ومن ثم استقالته على طبق من فضة”.

قد لا يتطابق المشهد المتخيّل مع ما حصل في الواقع، لكني اعتقد ان الواقع أكثر مهزلةً وذلاً من المشهد المتخيّل. ومهما عدّلنا في السيناريو المتخيّل، فسنجد فرنسا وايران والسعودية وسوريا تتحكم بالمسار العام.

ما يهمني من كل هذه القصة ليست مهزلة الاستقالة وما سبقها وحسب، بل بؤس نموذج المواطن اللبناني الذي جسده جورج قرداحي؛ مواطن لبناني عادي وعصامي، أصبح ميسورا بعد مسيرة مهنية ناجحة، استهلها في إذاعة مونتي كارلو المعروفة، واستكملها في قنوات خليجية معروفة أيضا، متحولا من البرامج السياسية إلى البرامج الترفيهية، وآخرها برنامج “من يربح المليون”. مثل الكثير من اللبنانيين الذين جمعوا الثروة أو حققوا الشهرة في الخارج، قرر قرداحي خوض غمار السياسة في لبنان.

لا أعرف كثيرا عن تاريخ مواقف قرداحي السياسية، لكني أعرف أنها رست في المرحلة الأخيرة على التماهي مع محور الممانعة والإكثار من امتداح قياداتها والتقارب مع حلفائها المسيحيين، ميشال عون بداية، وسليمان فرنجيه حاليا. وقد جرى اختيار وزيرين من كسروان مقربين من فرنجيه، من بينهما قرداحي، من أجل توسيع القاعدة المسيحية لفرنجيه، وتسهيل مهمة “حزب الله” في اختياره رئيسا للجمهورية، إذا قرر ذلك.

مأساة قرداحي ان المواقف التي أدلى بها قبل توزيره، ومن بينها آراؤه في شأن حرب اليمن، هي التي أتت به وزيرا من حصة فرنجيه، وهي نفسها، للمفارقة، التي أدت الى إجباره على الاستقالة لتسببها بإغضاب السعودية. فالذين جاؤوا به وصرّحوا أن استقالته هي انتهاك لكرامة الوطن وسيادته ومنعوه بالتالي من الاستقالة، هم انفسهم الذين ضحوا به لاحقا. مأساة القرداحي هي مأساة كل لبناني يرضى بأن يستتبع نفسه لقوى لا يمكن وصفها الا بالانتهازية، تستخدم اتباعها لمصالحها الخاصة وتجبرهم لاحقا على التضحية بأنفسهم وهم يبتسمون.

لسخرية القدر كان قرداحي قد بالغ كثيرا منذ تعيينه وزيرا للاعلام، بالدفاع عن الطبقة السياسية ومطالبة المواطنين والصحافة بعدم انتقاد أفرادها. وقد تبين بالتجربة أنه كلما انحنيت أكثر برأسك أمام هذه السلطة، استسهَلَتْ قطعه.

أصاب قرداحي عندما قال قبل توزيره إن حرب اليمن عبثية، وانا شخصيا افهم عبثيتها بأنها لا تؤدي إلا إلى قتل الشعب اليمني وتدمير بلاده، لصالح إيران والسعودية, لكن قرداحي عاد ونقض عبثيتها بعد أن دافع عن الحوثيين وانتقد السعوديين في البرنامج نفسه، متناسيا ان الحوثيين هم من بدأوا الحرب من خلال انقضاضهم على الاتفاقات التي حصلت بعد الثورة اليمنية، بمباركة إقليمية ودولية. وراح بعبثية مطلقة يدافع عن السلطة اللبنانية بعد توزيره مباشرة، ولم ينتبه أن بعض اركانها يعبثون به مطالبينه بعدم الاستقالة ومن ثم بالاستقالة. وبدل أن يستقيل بصمت، مؤكدا انه استقال منذ شهر كما ظهر في رسالة الاستقالة التي قدمها لميقاتي، راح يستكمل عبثيته بمؤتمر صحافي برر فيه الاستقالة بركاكة فظيعة، وبحسب منطق الذين ضحوا به.

مأساة المواطن قرداحي ستتكرر للأسف قريبا مع مواطنين لبنانيين آخرين، عندما سيحصر البرلمان صلاحيات البيطار بالتحقيق مع القضاة والاداريين والعسكريين من دون النواب والوزراء. اي محاكمة هؤلاء الذين مثل قرداحي، استتبعوا أنفسهم للسلطة، وغضّوا النظر عن نيترات الامونيوم لأنهم خضعوا لأوامر اسيادهم الذين استقدموه واستخدموه، والذين قرروا اليوم التضحية بهم حماية لأنفسهم.

وكما حصل بالنسبة لإستقالة قرداحي، ستجري على الارجح عملية الحد من صلاحيات البيطار بتوافق إقليمي دولي. مرة جديدة سيكتشف الشعب اللبناني انه مجرد أداة بيد سلطة تابعة كليا لمصالح مشغّليها الخارجيين. فهل يتعظ المستتبعون أنفسهم للسلطة، ويتفادون تكرار تجربة قرداحي، التي تؤدي الى الاستقالة او الى السجن، إذا لم تؤدِّ الى تبوؤ مراكز يديرها الفساد. وفي جميع الحالات تؤدّي حتما الى احتقار الذات.