الكولونيل شربل بركات: بلدة العيشية الجنوبية…وذكرى المجذرة التي تعرضت لها في أواخر تشرين أول 1976 

218

بلدة العيشية الجنوبية ... وذكرى المجذرة التي تعرضت لها في أواخر تشرين أول 1976 

الكولونيل شربل بركات/26 تشرين الأول/2021

بلدة العيشية اليوم وهي مسقط رأس قائد الجيش العماد جوزيف عون تقع في جبل الريحان على الطريق بين مرجعيون وجزين وقد كانت يوما تتبع لمتصرفية جبل لبنان وتشكل مع جارتها الجنوبية الجرمق حدود تلك المتصرفية ومن هنا كان ضمها لمطرانية صور الناشئة في 1906 لكي يتمتع مطران صور والأراضي المقدسة بما كان يتمتع به أشقاؤه المطارنة اللبنانيين من جو الحرية نوعا ما في سني ما قبل الحرب العالمية الأولى.

والعيشية تحملت ككل لبنان وزر حرب السنتين وسمح السوريون للفلسطينيين ومنظومتهم بتهجيرها كثمن لتنفيذ سياستهم التي تغطت باسم “قوات الردع العربية” وبقرار من الجامعة العربية صدر بعد يومين على تلك المجذرة الرهيبة التي راح ضحيتها أكثر من أربعين رجلا دافعوا عن ترابها بكل عنفوان ضد هجمة بربرية على مرأى ومسمع من القوات السورية التي كانت ترابط في منطقة جزين والتي تبعد كيلومترات قليلة عنها.

الكلام على العيشية اليوم هو بمناسبة ذكرى المجذرة التي وقعت في أواخر تشرين أول 1976 والتي احتفلت البلدة بها الأسبوع الماضي ولو بدون ضجة اعلامية كون الضجة الاعلامية كانت تنصب على أحداث الطيونة وعين الرمانة وذيولها والتي تهدد بنشر مثيلاتها حول كافة أنحاء الوطن الجريح بكرامته والناذف بصمت منذ أن سيطر حزب إيران على السلطة فيه وفرض على أهله تحمل العقوبات والقهر وسرقة مدخراتهم وتهجير أبنائهم خاصة بعد الانفجار الكبير في مرفأ بيروت والذي هدف لتغيير الديمغرافيا في العاصمة.

كل هذا صحيح وواقعي ولكن مقالتي اليوم لا تتعلق بالأحداث الحالية بل بأحداث ترتبط بأصل العيشية الأسم والذي يعود إلى الألف الثاني قبل المسيح وقد ورد في رسائل تل العمارنة وخاصة تلك التي تقع بين ما يطلق عليه (EA 33, EA 34, EA 35…up to EA 40) وهي تتحدث عن أهمية التبادل التجاري بين “مملكة العيشية” “Alashiya” ومصر في ظل حكم الفرعون أمنونحوتب الثالث حوالي سنة 1385 قبل الميلاد وفيها يظهر حجم انتاج هذه المملكة من مادة النحاس التي كانت شديدة الأهمية في نهاية العصر البرونزي تلك. ومن بين هذه الرسائل ما يظهر احترام ملكها الذي ينادي الفرعون ب”أخي” وهو ما لم يكن باستطاعة أي من الملوك المحليين وحتى ملوك صور وصيدا ذلك. من هنا ولو أن المؤرخين ومتابعي البحث الأركيولوجي لا يزالون غير متفقين تماما على مكان مملكة العيشية حيث يضعها البعض في شمال سوريا أو منطقة جنوب تركيا اليوم ولكن الأرجح أن تكون في قبرص وقد ورد في إحدى الرسائل المتعلقة بغير موضوع ما معناه بأن الرحلة التي كانت منطلقة من جبيل صوب مصر ضربتها عاصفة فشططت في بلاد العيشية ما يقرب الموضوع أكثر إلى جزيرة قبرص. وقبرص معروفة في التاريخ بمناجم النحاس وهي من الأماكن المشهورة بهذه المادة ولا تزال بعض آثار مناجم النحاس موجودة حتى اليوم ما لا نجده حول العيشية اللبنانية. وتؤكد بعض المجلات العلمية الأميركية المعروفة في مقالات ارتباط العيشية بقبرص ولو أننا لم نعرف أي نشاط مهم لاستخراج مادة النحاس في لبنان ولكن قد يكون هناك نوعا من الارتباط بين العيشية اللبنانية وقبرص مثل ذلك الارتباط بين ترشيش الاسبانية واللبنانية أو قادش وغيرها من المستعمرات فهل تكون العيشية هي أم لمدينة هاجر إليها بعض اللبنانيين ومن ثم عمرت كبرت وأصبحت مثل كل المستعمرات الفينيقية في الأرخبيل الايوني ومن ثم اشتهرت باستخراج وتصنيع النحاس في تلك الفترة.

يقول بعض الباحثين الاسرائيليين في جامعة تل أبيب بأن العيشية هي نفسها جزيرة اليشة الواردة عند حزقيال النبي حيث يسمي الأماكن التي كانت صور تتاجر معها فيقول: “… كتان مطرز من مصر هو شراعك ليكون لك راية. الأسمانجوني والأرجوان من جزائر أليشة كانا غطاءك…” وهنا أهمية التبادل التجاري مع اليشة أو العيشية (قبرص) حيث الفينيقيون المشهورون باستخراج الأرجوان وبقية الأصبغة كالاسمنجوني وهم هنا من سكان قبرص يتاجرون بهذه البضائع مع صور التي يصف عظمتها النبي حزقيال.

العيشية تلك البلدة الغافية اليوم بين تلال تكسوها اشجار الصنوبر وكروم العنب والزيتون كانت مرة مهمة أو أن بعض أهاليها المغامرين عبر البحر في سفن صور عمروا مدنها ونظموا مملكتها وسموها على اسم قريتهم كما فعل ابناء كور الذين هاجروا في آخر ايام الحروب الصليبية فسموا ضيعتهم الباقية حتى اليوم باسم “كورماجيتي” وتعني ذلك التعلق ببلدتهم التي لم تاتي بل أتى كل ابنائها وهذا مثال حي عن طموح هؤلاء اللبنانيين ومقدرتهم على اجتراح العجائب حيثما حلوا. وقد بقيت العيشية قرية صغيرة في جبل لبنان بينما زالت المملكة التي اشتهرت في الماضي بمناجم النجاس وصناعة الأرجوان وتجارتها مع مصر وفينيقية وسائر الأقطار.

فإلى العيشية وأبنائها المتجذرين سلام وإلى أبطالها الذين استشهدوا في الدفاع عنها إن في بداية الأحداث أو لاحقا بعد عودتهم واعادة بناء بلدتهم الف رحمة وإلى الذين لا يزالون متمسكين بلبنان وبأرضهم عبر العصور فلا يغير ولاءهم غاز ولا تقدر أن تقتلعهم جيوش مهما زادت غطرستها وتطورت اسلحتها كل المحبة الاحترام.