شارل الياس شرتوني/الحكومة الصورية والسياسة الانقلابية

85

الحكومة الصورية والسياسة الانقلابية
شارل الياس شرتوني/21 أيلول/2021

أصبحت ثنائية الدولة الأسمية والحكم الفعلي مشهدا سياسيا مطبعا، في الوقت الذي تسعى فيه السياسة الانقلابية الى التصفية التدريجية للدولة اللبنانية عبر فرض التشكيلات الوزارية، واملاء الخيارات السياسية والعامة، وارساء الترسيمات الجيو-سياسية البديلة في غير إتجاه.

لقد تجاوزت الفاشيات الشيعية مفهوم الاستثناءات السيادية وواقع السيادة الاستنسابية والمحدودة والمعطلة، باتجاه ارساء دولة الولي الفقيه كما تظهرها فتاوى حسن نصرالله والاسقاطات السياسية المدغمة بالعصمة الالهية، واحيلت الدولة اللبنانية الى الهوامش التطبيقية التي يجيزها الفقه الاستنسابي وحدود الشرع الجعفري.

نحن أمام دولة شيعية في طور التحقق وكل ما عدا ذلك مسرح ظلال وتواطؤ فعلي مع المشروع الانقلابي، كما تؤشر اليه الحدود المرسومة للحياة السياسية والأولويات المتبدلة للعمل الحكومي.

إن تواطؤ رئيس الجمهورية الصادر عن مفارقات رهاناته الواهمة وأطماع دائرته العائلية وقصور مناصريه، والتبادل المصلحي بين أركان الاوليغارشيات السنية وسياسات النفوذ الشيعية، وتقاسم العمل والمحصاصات القائمة بين ألاطراف الشيعية، ليسوا الا بمتكآت مرحلية تستخدم في عملية القضم التدريجية للحيثيات الدولتية والكيانية اللبنانية.

تؤشر إعلانات البيان الوزاري على عموميتها والتزاماتها الافتراضية والمطاطة الى حدود قسرية مملاة على الفريق الوزاري الذي يفتقد الاستقلالية المعنوية بحدودها الدنيا (كما عبر عنها صحفي كويتي، ٨ وزراء لحزب الله، و٨ يناصرونه، و٨ يخافونه)، ويستعيد ملامح المجموعة الوزارية السابقة. هذه الملاحظات تحيلنا إلى التوقعات الفعلية التي يجري على أساسها تقييم الاداء الحكومي القادم في المجالات السياسية والعامة:

– إن اقتصار البيان الوزاري على إعلانات عمومية مؤشر سيء لجهة استعدادات المافيات الحاكمة وإصرارها على ابقاء الاقفالات الاوليغارشية على كل المستويات التي تطال القرار السياسي والعام في البلاد. إن طبيعة التشكيلات الوزارية واقتصارها على مستخدمين تأتي بهم التفاهمات الاوليغارشية، وتجاهل الحراكات المدنية والتيارات السياسية المعارضة، يشيران بشكل غير موارب الى رفض أية تسوية سياسية معها، ومع المفكرات الاصلاحية التي تحملها. هذه الاقفالات الاوليغارشية التي أسست لها جمهورية الطائف على خط التقاطع بين سياسات النفوذ الداخلية والخارجية قد أصبحت ملازمة للحياة السياسية اللبنانية، وتسعى الى تأمين استمراريتها عن طريق الانتخابات النيابية المفبركة من خلال الائتلافات المغلقة والتفصيل الاستنسابي للدوائر الانتخابية (Gerrymandering)، وتحول رئاسة المجلس النيابي الى سلطة مؤبدة وناظمة ومحكمة لعمل المؤسسات، على نحو يصيب بشكل قاتل مبدأ فصل السلطات الذي بدونه لا يستقيم النظام الديموقراطي .لقد خرج العمل السياسي اللبناني من الدائرة المؤسسية والدستورية الى دائرة صراعات النفوذ بامتداداتها الداخلية والخارجية، وتحول الى مسرح رديف وتابع للسياسات الانقلابية بمكوناتها المحلية والاقليمية ومسوغاتها الايديولوجية والاستراتيجية المتوالية منذ ستة عقود.

– يأتي حل الأزمة المالية على رأس الأولويات التي تنبغي معالجتها إن كان هنالك من نية لتطبيع الاوضاع السياسية ووضع البلاد على خط التعافي الاقتصادي. ثمة تواطؤ بين سياسات النفوذ الشيعية والاوليغارشية وجمعية المصارف لجهة الابقاء على واقع الريوع والحيازات الجمركية والتهريب، والاقتطاعات الزبائنية للموارد والإدارات العامة، وعدم اجراء التحقيق المالي الجنائي الذي يجب ان يشمل جميع الوزارات والادارات، والتراتبيات الوظيفية، والمصارف ومجالس إداراتها ومساهميها، والبنك المركزي، ومرحلة الاحتلال السوري، من أجل اخفاء معالم الجرائم المالية المرتكبة خلال العقود الثلاثة المنصرمة وانهاء السياق القضائي وتبعاته الجرمية، وهذا ما سوف يؤدي الى نسف مداخل الاصلاح المالي لجهة تخمين واسترداد الأموال المهربة، ومصادرة الاموال العامة و الخاصة المنهوبة عن طريق سياسة الديون غير المشروعة لتمويل مشاريع عامة وهمية أو ذات كلفة مضخمة. تضاف إليها إعادة هيكلة النظام المصرفي على قاعدة تصفية انتفاخه المصطنع (٦٠ مصرفا) من أجل تصريف سياسات تبييض أموال الإرهاب والجريمة المنظمة والاقتصاد غير المشروع، وتغذية عملية شفط الأموال الخاصة عن طريق الأرباح الربوية التي أمنتها الاكتتابات في سندات الخزينة (١٢-٤٢\١٠٠، ١٩٩٠-٢٠٢١)، التي أشرف عليها ائتلاف المنظومة المافيوية الحاكمة وحاكمية البنك المركزي، والمجلس النيابي من خلال لجان عمله وجلساته التشريعية وعمل رئاسته التي لعبت دور منسق عمليات النهب بالتعاون مع حكومات رفيق الحريري المتتالية، وبالتواطؤ مع رؤساء الجمهورية والحكومات الملحقين بسياسات النفوذ السورية والايرانية (باستثناء سليم الحص لجهة نظافة الكف). كما تليها إعادة النظر بدور المصرف المركزي الذي خرج عن دوره الناظم للسياسة المالية على ضوء مقررات بازل الثلاث لجهة ملاءة النظام المصرفي وموجبات الرسملة، وإدارة المخاطر، وإنفاذ موجبات قانون النقد والتسليف والمعايير الدولية الناظمة، وانهاء دوره كبديل غير شرعي لآليات إقتصاد السوق ودينامياته ومعاييره الناظمة، والحلول مكان المجلس النيابي في مجال إقرار السياسات المالية، وسياسات الدعم وموجباتها وآلياتها ورزنامتها وتحديد المستفيدين منها.

إن إقرار خطة التحقيق الجنائي المالي وملحقاتها ومترتباتها القانونية والجزائية مقدمة أساسية لا مهرب منها من أجل صياغة خطة إصلاح إقتصادية سوية مبنية على التواصل بين السياسة المالية والاقتصادية من أجل اطلاق دورة اقتصادية فعلية مبنية على التداخل العضوي بينهما، لجهة تفعيل حركة الاستثمارات في مختلف القطاعات الانتاجية، والبنيات التحتية الحاضنة، والسياسات التربوية والبحثية، والتكنولوجيا العالية، ومرتكزات الاقتصاد البيئي المستدام، والشبكات المعلوماتية التي تؤطر العمل الاقتصادي بكل مندرجاته. إن الذهاب الى صندوق النقد الدولي والدول المانحة والبرامج التسليفية دون أية إعلانات إصلاحية والتزامات واضحة، سوف يبقينا في الدائرة المفرغة التي تؤكد أن المافيا الحاكمة هي بصدد إضاعة الوقت وتثبيت سياسة الانهيارات الإرادية التي تنتهجها الفاشيات الشيعية، مدخلا لتفكيك الحيثيات الدولتية اللبنانية ومقدمة لسياستها الانقلابية.

– إن مسرحية استيراد الغاز من إيران، وفقه التهريب حسب المذهب الجعفري (الضرورات تبيح المحظورات)، وسيناريو استجرار الغاز المصري الى لبنان عن طريق سوريا ليس باشكالية تقنية-سياسية كما يدعي محور حزب الله، بل مدخل سياسي لبشار الاسد عن طريق الغاز المصري، ومداورة تثبيت نفوذ حزب الله عن طريق المعابر الجيو-استراتيجية الآخذة بالتبلور والتي بات المد العلوي أحد مرتكزاتها الأساسية. أما مسألة توقف المفاوضات اللبنانية-الاسرائيلية حول الحدود البحرية فتنبع من إرادة التفرد بالملف من قبل الجانب الشيعي والتصرف به انطلاقا من حسابات سياسية فئوية، وإشكاليات ترسيم الحدود البرية والبحرية إستنادا الى إتفاقية الهدنة (١٩٤٩) وتوپوغرافية سايكس-پيكو، وعدم الرغبة في المعالجة الدپلوماسية لمسائل الحدود البحرية والبرية الخلافية مع إسرائيل. ضف الى ذلك الاستثمار السياسي للتهجير السوري من أجل تثبيت الاختلالات الديموغرافية والسياسية والأمنية، وتكاثف الأزمات الحياتية المفتعلة وتوظيفاتها السياسية والزبائنية. على الحكومة اللبنانية أن تحدد مسارها خارجًا عن إملاءات حزب الله ونبيه بري، وأن تسعى الى تخريج تسوية لبنانية جامعة تخرجنا من دائرة الاستثناءات السيادية التي محضت لحزب الله وسياسات النفوذ الشيعية في الثلاثين سنة الماضية طوعًا وإكراهها، ومن التسليم بفتاواهم،إذا ما أردنا استئصال لبنان من دينامية التآكل التي تفرضها، وهذا لن يتم تحت مظلات حكومية مستخدمة من قبله، مما يعني أنه لا سياسات إصلاحية فعلية دون سيادة محققة واستعادة الحيثيات الوطنية والدولتية.

إن الالتباسات التي تكتنف ملف التحقيق بانفجار المرفأ، وما يرافقها من مناخات إرهابية تتدرج بين الاغتيال والتهديد والتلاعب بمسرح الجريمة وتدمير الادلة والضغط على القضاء، ما هي إلا نماذج عينية عن سياسة تدمير شاملة تهدف الى تبديل الديناميكيات الناظمة للاجتماع السياسي اللبناني (السياسية، المالية، الاقتصادية، الاجتماعية، المدينية والديموغرافية…)، وهدم الذخر الاجتماعي اللبناني الذي بني خلال المئوية الماضية، وتفكيك المتكأ الانتروپولوجي الذي أعطى للبنان حيثيته الوطنية والإنسانية (الوجود المسيحي الحر وما تأتى عنه من مكتسبات إنسانية وحضارية وثقافية وسياسية وتاريخية أنهت واقع الذمية والحجر الاقلوي والاندثار الثقافي والدونية المعنوية واللامساواة، الذي حكم السياسات الاسلامية المتعاقبة تجاه الاقليات على تنوع تصريفاتها الاسلامية وغير الإسلامية، لحساب منطق حقوق الانسان والتعددية القيمية والحياتية والمسكونية الدينية والايتوس الليبرالي والديموقراطي ومؤسساته ومعاييره الناظمة)، وإحالته الى سياسات الإرهاب والجريمة المنظمة والمناخات التوتاليتارية التي تطبع الاسلام السياسي المعاصر، بمتغيراته السنية والشيعية، والنزاعات المفتوحة الملازمة له.