الحلقة الأولي من كتاب الكولونيل شربل بركات الجديد: “لبنان الذي نهوى”… بحث سياسي لمرحلة المئة عام من تاريخ لبنان الكبير/عنوان حلقة اليوم: العودة إلى لبنان الكبير

517

كتاب الكولونيل شربل بركات الجديد: “لبنان الذي نهوى”..بحث سياسي لمرحلة المئة عام من تاريخ لبنان الكبير

الحلقة الأولي من كتاب الكولونيل شربل بركات الجديد: “لبنان الذي نهوى”.. بحث سياسي لمرحلة المئة عام من تاريخ لبنان الكبير/عنوان حلقة اليوم: العودة إلى لبنان الكبير

الحلقة الأولى/31 آب/2021

تمهيد
وصل لبنان اليوم، وفي ظل هيمنة حزب السلاح المرتهن لأوامر الولي الفقيه، والذي يعتبر بأن الأمة أهم من الوطن، والصراع التاريخي بين السنة والشيعة هو وسيلة لإعادة رسم حدود الأمبراطورية الفارسية واستعادة دورها في منطقة الشرق الأوسط، والتي تعتبر عقدة المواصلات الدولية، خاصة بوجود تطلعات التنين الصيني وطموحاته بإعادة توزيع الأدوار في قيادة اقتصاديات الكرة الأرضية، والمرتكزة دوما على سهولة التواصل، وسرعة نقل المنتجات بأقل كلفة ممكنة، وصل لبنان إذا إلى الدرك من ناحية الامكانيات والبنى التحتية ودور المؤسسات. فالمحتل أراد أن يهدم كل شيء لكي يتثنى له السيطرة الكاملة، وتهجير ما أمكن ليصفو له الجو. ولكن اللبنانيين الذين مروا بحالات أصعب من هذه لن يتركوا بلدهم سائبا ولن يقبلوا بالسكوت على الضيم.

أما بالنسبة للتحركات الكبرى في المنطقة فقد كان النقل الجوي أخذ حيزا مهما بعد الحرب العالمية الثانية، ويوجد اليوم محاولات لتخفيف تاثير الانبعاثات على الطبقات الجوية التي تغلف الكرة الأرضية، ولذا فإن وسائل جديدة وطرقا مستحدثة قد تحل محل النقل الجوي وتعتمد مثلا على القطارات الأنبوبية السريعة العاملة بالكهربا والتي تخفف الكثير من الانبعاثات المضرة للبيئة مما يلزمه المرور على الأرض، ومن هنا أهمية السيطرة واعادة توزيع المسؤوليات.
لبنان الذي يقع في وسط هذه النقطة الجغرافية الاستراتيجية والتي تشكل عقدة المواصلات بين أوروبا وآسيا وأفريقيا لا بد له من أن يعاني من المتغيرات، وبالتالي فرض بعض القوى نفسها ومصالحها بالسيطرة على هذه العقدة، أو اقله بالمشاركة في جني أرباحها. ولذا فكل ما يقال عن تغيرات اساسها محلي هي غير دقيقة، والصراع الكبير لم تظهر نتائجه بعد، ولو أن محاولة أيران الدخول إلى النادي النووي سيعطها المجال للمشاركة وحصد المغانم، كما يعتقد من يحكمها اليوم، ومن هنا الاصرار على تغيير ديمغرافي مكلف لتأمين سيطرة ولو جزئية سوف تفرز نفوذا على الأرض وتشكل ثقلا يبعث على التفاوض معها حول الحلول الجديدة.

ولكن، ولو أن لبنان قد لا يكون من ضمن المناطق التي ستمر فيها تلك الخطوط الكبرى، انما وقوعه في وسط المنطقة وعلى واجهة المتوسط يعطيه دورا مؤثرا، ومن هنا محاولة البعض للسيطرة عليه. ويبقى الطرح الأفضل والذي سيحفظ للبنان دوره مهما كانت المتغيرات يصب في خانة “الحياد” المقبول من كافة القوى التي تسعى للحصول على موطئ قدم. ومن هنا، ومهما تردت الأحوال، فإن المستقبل سيكون زاهرا، ودور لبنان كمحطة مهمة على “طريق الحرير” وكوصلة أساسية بين الشرق والغرب، لا بد أن تعطي الاجيال القادمة ذلك الدفع الذي مارسه اللبنانيون منذ فينيقيا وسفنها إلى لبنان الكبير ودوره في جمع الاضاد وتحويل الصراعات إلى بارقة أمل والمعاناة إلى فرص للنجاح.
سنستعرض في هذا البحث ما مر به لبنان، خاصة في المئة سنة الأخيرة، والتي أدت إلى بلوغه هذا المستوى من الصراع، ولا يزال يعاني من تداخل بين الطموحات الفئوية والقدرات الجماعية التي تميز هذا اللبنان وسكانه.
ولذا فقد أردنا توضيح ما يجري بسرد بعض الوقائع لكي نعرف كيف وصل الحال بنا إلى هذا المستوى وكيف يمكننا، عندما نستوعب الوضع الحقيقي، أن نخرج من المستنقع لنركب مجددا قطار السلام والاستقرار والتقدم.

مقدمة
كلما بدأ لبنان، الوطن العزيز الذي تربينا على محبته، يرتاح قليلا من هموم التجاذبات ومحاولات الهيمنة، تأتينا رياح جديدة تحاول بأساليب مختلفة هدم ابراجه والسيطرة عليه مجددا، وكأن هذا البلد هو درة في عيون الكثيرين ولن يرتاح من يسكنه إلا إذا بقي مستعدا واعيا متحفذا للدفاع عنه. أوليست كل الثروات بالعادة معرضة للسرقة وكل مُشتهى يلزم حمايته؟

صحيح بأن لبنان وطن يتألف من ارض وشعب وتاريخ، وهو عمليا يتبع لما يسمى المشرق أو الشرق الأوسط أو الأدنى، ويقع على حدود الصحراء منتصبا فوق دمشق رافعا أنفه صوب السحاب غير مهتم بمروج فلسطين أو مدائن اسرائيل ولا بالبادية تلك أو سهول الشمال التي يغزيها بخيراته، وهو يحاول أن يكون منفتحا على الكل، رصيده الفكر النيّر وحب المغامرة التي تخلق مع ابنائه، وذلك الانفتاح الذي تكسبه اياه مرتفعات تمتد على طوله من الجنوب إلى الشمال وتنفتح على بحرٍ واسعٍ كان دوما “مربض خيله” ووسيلته للخروج من أعباء الفاقة وثقل الجيوش الغازية وهموم الاحتلالات، إلى المدى الواسع غير المنظور والذي يخبئ خلفه اساطير الشعوب الحالمة ومكامن الثروات الدفينة، ولكنه يبقى، بصموده بوجه أطماع الآخرين، هيكل الله الذي يقدس الحرية ويحمي أتباعها ويسهم في بقاء نارها متقدة تنير الشعوب المقهورة وتلهم الطموحين منها. من هنا كان كل متغطرس أحس بقوته يصبو إلى لبنان ويحلم أن يتحكم بأرضه وشعبه.

لكن ذلك اللبنان لم يقتنِ جيشا جبارا مرة في تاريخه، ولم يعتمد على القوة والبطش للتسلط على جيرانه، ولا هو قاد مشاريع الهدم أو الاستبداد وأيدها تحت اي شعار، ويوم وصل كليم الله موسى قبالة أرض الميعاد وسأل عن “ذلك الجبل الأبيض هناك في الأفق”، كان جواب “العلي” أن أٌردد طرفك فهذا وقف لي لا تدخله ولا من يأتي بعدك. هذا اللبنان إذا بلد مقدس وعلى من يسكنه أن يعلم ذلك ويستعد لأن يحافظ على أصول السكن فيه، فليس من يأتي من الخارج فقط عدو هذا البلد ولكن ايضا هناك الكثيرين ممن سكنه ولم يتقبل نعمه كما هي أو يفهم معانيها، وظلت أنظاره متوجهة إلى الجمال الخارجي والتبرّج المفرط والتنعّم بما يلمع من الذهب والجواهر أو بأحلام الاتساع والانتصار والفتوحات الفارغة تلك، وهو مستعد أن يبيع نفسه مقابلها ويبيع الوطن الذي لم يعرف له قيمة بعد، ولذا عندما يكثر هؤلاء ترد الطبيعة لبنان إلى عهد القلة والحاجة لينقى القمح من الزؤان ويهرب الطارئون فيعود للبلد استقراره ولو مع بعض الحاجة.

أزمة اليوم ليست جديدة ولا هي اصعب الأزمات، ومخاطر الديمقراطية التي اعتمدها لبنان تكمن في تمسّك البعض بالمناصب والاعتقاد بملكيتها وبأنها الطريق إلى الثراء، ولكنها بالواقع، وخاصة في بلد مثل لبنان، يجب أن تكون لشاغلي المناصب مهمة محددة، ليس فقط بالزمن، ولكن أيضا بالأمانة والاخلاص لمباديء كبرى، هي رسالة لبنان الدائمة، وتنفيذها بجدارة ودقة وتقنية، ما يجعلها ناجحة، تفيد البلد وسكانه وتبقي روح الابداع والنبوغ والمبادرة الفردية متحفزة للانطلاق والعمل على بناء مستقبل الأجيال، واللحاق بركب العصر، وتحفيذ رجال المستقبل على الانتاج، وابقاء شعلة الحرية التي يزينها الاكتفاء متقدة ومنطلقة، تنير الشرق والغرب، وتسهم في تطور مفاهيم التعاون الانساني على الخير، لا التسلط ولا التملك، في هذه الدنيا الفانية.

هذا الدفع الأخلاقي تدعمه بالعادة روحية الاتزان والزهد التي ترافق كل الفئات المكونة لهذا البلد. فعند الموارنة الذين طالما عانوا من المآسي والمظالم بقيت روح النسك والزهد هي القائدة وهي المثال، وأصبح القديسون منارة الشعب وملهمه، ولا تبعد هذه الانطلاقة الروحية عن الدروز الذين يعتبرون الدين الحقيقي توحيدا لكل الفلسفات البشرية أو الديانات الملهمة من اقاصي الصين والهند إلى بلاد اليونان والرومان مرورا بالمفكرين المسلمين الذين ورثوا الكثير من المسيحية واليهودية، وقد وجدوا بهذا الجبل مركزا مهما لحريتهم في التقرّب من وجه الله والاستنارة بالهاماته. ويؤلف أئمة الشيعة العامليين، الذين تعمّقوا بالفكر والزهد طيلة قرون من الزمن، وقاسوا القلة والجور، وتنقلوا من حكم ظالم إلى أمل بمستقبل أفضل، تلك القطبة المخفية التي تجعل من الاسلام دينا مترفعا عن الصغائر، متعلقا بروح العدل والرحمة، متفلتا من أوساخ المادة التي ترهق الفكر وتلهي عن الإيمان. ولا نريد أن نزايد على الامام الاوزاعي في العمل من أجل العدالة بين الناس، ولا على غيره من ائمة التصوف طريقا للتقرب من الله وتحسس مشيئته والعمل على تعميم رحمته لتشمل أسس الضمير الذي يحدد علاقاتنا بالآخرين. من هنا فالوان الديانات في هذا اللبنان هي طريق يجمع على الخير ويقدس المبادرة وروح العمل والانتاج، وهو بعيد كل البعد عن تلك النظريات الأنانية المرتكزة على حب التسلط والتملك والاستفراد بكل شيء، أو روح القهر والسيطرة والاستبداد.

العودة إلى لبنان الكبير
هذه المقدمة تبسيط لدور لبنان في صهر الفلسفات البشرية والتجارب الانسانية عبر الأجيال والعصور لتنتج عمليا عقدا اجتماعيا حاول تخطي عدة عقبات وضغوطات وأحلام، وقدّم حلا عالميا للمجتمعات المركبة يعطي الانسان والفئة التي ينتمي إليها وضعا قانونيا يماشي حريته في ممارسة معتقداته وعاداته وتقاليده بدون تدخل من الآخرين، فالكل يعترف للكل بحقوقه ويقبل بممارسة شعائره وطقوسه المرتكزة على معتقداته بدون تدخل أو انتقاد من شركائه في الوطن، ومن ثم فهو له مداه في ممارسة حريته التي تتوقف عند حرية الآخرين ولا تتعدى عليها، ويتمثل الجميع بالسلطة والوظائف العامة والقرارات المهمة، التي تؤخذ عادة بالتراضي، ما يسمح لكل فئة، مهما صغرت أو كبرت عددا، بأن تحافظ على كيانها وفكرها وتجربتها، ويكون لها في نفس الوقت فرصة العيش مع الآخر والتعاون معه، ولو أختلفت العقائد والتوجهات. وهذه قمة الممارسة الديمقراطية التي يحلم بها كل هارب من جور أو صاحب راي مختلف يحاول أن يعيش تجربته في الحياة ضمن قانون يضمن حقه ويلجم أي تصرف عدائي منه أو عليه. من هنا كان نظام لبنان هذا التجربة الديمقراطية الأكثر تطورا، وكان هذا النظام يدرّس في جامعات الحقوق السياسية كمثال للنظم التعددية في العالم، وقد ساهم بوضع شرعة حقوق الأنسان التي اعتمدتها الأمم المتحدة وكان ممثله الدكتور شارل مالك أحد أعضاء اللجنة التي صاغت هذه الشرعة العالمية كما كان ساهم في القانون الروماني ايام مدرسة الحقوق في بيروت والذي أخذ طابعا عالميا.
يجب إذا قراءة التاريخ الحديث، الذي دائما ما يقال عنه بأنه سبب كل علة في لبنان، على ضوء هذه المقدمة وبعد التقصي عن الأسباب الحقيقية التي تكمن خلف كل تحرك ومطالبة بالتغيير جرت خلال هذه المدة، وربطها بما كان يدور من حولنا، وتأثير المثال اللبناني عليها، ما أدى إلى مهاجمة هذه اللبنان بدل المساهمة ببقائه واستمرار تجربته وانجاحها، كونها ستشكل الملجأ الوحيد لكل متغطرس سيهرب لاحقا من بلده إلى لبنان ويلجأ إلى ربوعه، ليحتمي من متغطرس آخر تعلّم منه القهر وبدأ ممارسته عليه، والأمثلة كثيرة.

إذا ما عدنا إلى التاريخ القديم نجد بأن سياسة المدينة الدولة كانت الأفضل لممارسة الديمقراطية وتحفيذ التقدم والدفع نحو الانتاج وعدم الاتكالية، وقد كان لكل مدينة مصانعها واختصاصاتها التي برعت فيها، وطرق تجارتها وحتى مراكز لجوء قوافلها على الطرق البعيدة، وتحالفاتها أو علاقاتها مع القوى المتحكمة بهذه الطرق وتبدل هذه القوى. ومن ثم حتى يوم فقدت استقلالها، الذي كانت تحميه جغرافية البلد وصعوبة مسالكه مع بعد نظر قادته وتفردهم بوسيلة النقل البحري مدة طويلة، فقد بقيت لها ادارتها الذاتية وتميّز مدنها وما يتبعه، ونظام التعامل مع القوى الكبرى الذي أعطاها حماية خاصة وأسواق مستقرة مقابل دفعها متطلبات تلك السلطة واسترضائها. وطالما لم تتدخل تلك القوى بصناعتها وتجارتها، أي موارد الرزق الاساسية، فلم يكن هناك من مشكل كبير ما كان يؤدي إلى قبولها والتعايش معها، ولكن عندما تنفتح عيون المتسلط على أرزاق الناس والتدخل بحياتهم وانتاجهم كان يحدث التغيير ويبدأ التململ.

وقد بقي لبنان هذا بكل خصائصه التي مكنته من التعايش مع المتغيرات الدولية من حوله مع اليونانيين والرومان وحتى العرب حيث كانت المناطق اللبنانية تتمتع بفرق خاصة من “الجندية اللبنانية” في التنظيم الروماني والتي تتركز مهمتها بمنع القبائل البدوية الغازية من الوصول إلى المدن الساحلية بقصد السلب والنهب. وحتى بعد الاسلام بقيت هذه القوى المحلية هي التي تفرض استقلالية المناطق اللبنانية إذ أنها كانت تنسق الأمن المحلي مع القوى الكبرى المسيطرة في المحيط وكيفما تقلبت موازينها. من هنا مثلا بقيت الخيالة المارونية التي حاربت مع المردة في المناطق الشمالية كما فرق الخيالة التي اعتنقت الدرزية في الوسط وتعاونت مع الحكم المركزي في بغداد والخيالة التي تشيعت مع ابو ذر في جبل عاملة في الجنوب تنسق ما أمكن مع حكام المناطق الادارية الكبرى حتى في زمن العثمانيين. ومن هنا مثلا حروب ناصيف النصار في القرن الثامن عشر مع ضاهر العمر لحماية “الحدود” الجنوبية أو مع والي الشام في المنطقة الشرقية والتنسيق مع حكام الجبل الدروز والموارنة فيما بعد.

ولكن وبالرغم من تداخل السلطة وأحيانا تنافس هذه المناطق لم يكن هناك صراع فعلي طويل شكل حاجزا للتواصل أو التكامل في كافة المناطق اللبنانية لا بل شهدت بعض الفترات تداخلا سكانيا بقبول السلطة المحلية والتمتع بحمايتها وبالتالي التشديد على حق الاختلاف مع التفاهم حول حدود الحرية.

المشاكل الكبرى التي حدثت ولا يزال البعض يتاجر بها وقد ورثناها من فترات تغيّر في القوى الخارجية وتأثيرها على الداخل كانت مشكلة 1860 في الجبل ومشكلة 1920 في الجنوب. وسوف نشرح بعض أسسها لا حقا.

مشكلة 1860 بين الدروز والموارنة لم تكن وليدة صدامات محلية بقدر ما كانت من فعل المخابرات العثمانية التي رأت بتحالف الأمير بشير واللبنانيين عامة مع جيش ابراهيم باشا المصري الذي وصل إلى أبواب اسطنبول واحتل سوريا وكيليكيا وبعض أجزاء من العراق والذي فرض عليه التوقف من قبل الدول العظمى يومها والتي اتفقت على اعطاء محمد علي والده حق التوريث في حكم مصر واعتراف الدول العظمى له ومساعدته على حكم مصر بشكل حديث ونقل التكنولوجيا الأوروبية إليها، على أن ينسحب من المناطق التي احتلها ويعيدها إلى سلطة الدولة العثمانية، والتي فرض عليها عدم الاقتصاص من اللبنانيين وسائر القوى المحلية التي ساندت حملة ابراهيم باشا.

العثمانيين الذين قبلوا على مضض لم ينسوا ما فعله اللبنانيون ولا سكان جنوب تركيا وكيليكيا، وقد كانوا اشترطوا نفي الأمير بشير الشهابي من لبنان. ومن هنا كان التخطيط لضرب اللبنانيين بزرع الشقاق واحداث الفتنة بين الموارنة والدروز أولا ما أدى إلى أحداث 1860 التي اضطرت فيها فرنسا لارسال حملة عسكرية لحماية اللبنانيين من هذه المذابح، والتي كان العثمانيون يديرونها، وبالتالي فرض نظام القائمقاميتين الذي يقسم السلطة بين الموارنة والدروز.

وعندها انتهت مهمة الحملة الفرنسية وعادت أدراجها. ولكن العثمانيين أكملوا مشروعهم بعد انسحاب الجيش الفرنسي ما أدى إلى أحداث جديدة سنة 1864 والتي طبق بعدها نظام المتصرفية حيث رفعت سلطة الباب العالي المباشرة عن لبنان. ولكن الحقد على اللبنانيين وعلى سكان كيليكيا لم ينتهِ وفور تباشير الخلاف الأوروبي بين فرنسا وبروسيا بدأ العثمانيون بسياسة التهجير العرقي والديني في مناطق كيليكيا حيث جرت مذابح الأرمن وتهجير السريان والآشوريين وغيرهم من جنوب تركيا. أما في لبنان فانتظروا بداية الحرب العالمية الأولى ليبدأوا بسياسة الانتقام من اللبنانيين والتي قامت على التجويع وفرض الخدمة الاجبارية.

ولكي لا نغوص في مراحل طويلة من التاريخ وأخباره سنكتفي بعرض ما وصل إليه البلد منذ نشوء لبنان الكبير إي ما بعد الحرب العالمية الأولى. فقد كانت الدول الأوروبية التي تعاطت مع الدولة العثمانية، وريثة الامبراطورية البيزنطية والخلافة الاسلامية والتي جذورها من قبائل شرق آسيا المحاربة في صفوف المغول والتتر، والمنتقلة من فيافي آسيا إلى البحر المتوسط وأسوار القسطنطينية، وكانت تعاونت مع الخلافة العباسية، وقهرت المماليك، وتمددت صوب مصر من جهة، وأوروبا من جهة ثانية، ما جعلها قوة قاهرة أرعبت الأوروبيين زمنا، ولكنهم بعد أن أوقفوا زحفها، ركزوا على الاكتشافات البحرية، ثم شددوا على الصناعات التي طورت دولهم، ورفعت قدراتها الاقتصادية والعسكرية وخاصة بعد الثورة الصناعية الكبرى. كانت هذه الدول تحاول تغيير مفاهيم السلطة حول العالم، واعتماد مباديء الانفتاح على الشعوب، ومحاولة تطوير قدراتها الانتاجية وبالتالي الشرائية، ما يؤدي إلى منع الحروب أو حصرها بازالة أسبابها، ومن هنا كان انشاء عصبة الأمم، ومحاولة نشر مبدأ الانتداب على الشعوب الصغيرة لتعليمها الادارة الذاتية. وهكذا أعيد للبنان ما كان سلخ عنه من مناطق تاريخية عند انشاء نظام المتصرفية، لتشكل وحدة جغرافية واجتماعية متشابهة، يُعمل فيها على نظام متطور، تسود خلاله سلطة القانون ويتنظم الحكم فيه بالتدرج، لملاقاة الدول المتقدمة شيئا فشيئا.
كانت أولى المشاكل التي تعرّض لها لبنان هي بقايا العثمانيين الذين نقلوا البندقية من كتف السلطنة التي كانت تتفكك إلى امارة فيصل الذي كان يحلم باستبدالها. ولو كان هناك مشروع لاعادة تنظيم المنطقة تحت اشراف فيصل فإن بقايا العثمانيين أولئك عطّلوا هذا الحل بتعنتهم ومحاولتهم رفض سلطة الانتداب التي كانت تخطط لتنظيم تركة السلطنة وتدريب المواطنين في البلاد التي تركتها على الحكم الذاتي بحسب تطلعاتهم الطبيعية والتاريخية، من هنا كانت فكرة الدولة العربية بقيادة فيصل، ولكن بتنظيم يشبه الفدراليات الحديثة، حيث لكل فئة مقاطعتها وقانونها وأحكامها وتمثيلها في الدولة الكبرى، وهذا ما جربت الحركات السياسية أن تعرضه. ولكن وبسبب سرعة المتغيرات، وخاصة بقاء جيوب الفكر العثماني من الضباط الذين كان لهم دور في الحكم البائد واعتقدوا بأن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه في السابق، كما جرى بعد حملة ابراهيم باشا المصري، وأن العثمانيين فور انتهائهم من اعادة التنظيم سيبسطون مجددا سلطتهم على البلاد، وقد عملوا على تسريب الأفكار المضادة للفرنسيين، خاصة في سوريا، لأن فرنسا كانت خسرت أعداد كبيرة من جنودها في حربها مع الالمان وفي معارك غاليبولي على مداخل الممرات المائية إلى البحر الأسود وكان عظيم قواتها يتركز في كيليكيا، ولم يكن لها قوات كبيرة على الأرض في سوريا ولبنان، ما أعطى لهؤلاء المصطادين بالماء العكر اعتقادا بأنها لن تكون قادرة على فرض سلطتها، فلما لا نحاول السيطرة على البلاد تحت شعار الحرية والاستقلال وغطاء فيصل، ريثما تنتهي قوات السلطنة من اعادة التنظيم. وكان على راس هؤلاء الضابط التركماني السوري المولد يوسف العظمة الذي كان من كبار الضباط الأتراك، وقد شارك في عدة معارك في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ثم عمل مساعدا لأنور باشا أحد الباشوات الثلاثة الذين قادوا السلطنة يومها، ومن هنا اصراره على اعلان قيام مملكة فيصل ورفضه للتعاون مع الفرنسيين ودفعه الأمور باتجاه المواجهة.

هذه النقطة مهمة جدا في تاريخ المنطقة لأنها نواة المشكل الدائم الذي توهم من ادعى الوطنية، منذ تلك الفترة بأن كل ما عمله الانتداب لم يكن في سبيل تنظيم الشعوب وتعليمها على الحكم الذاتي، إنما كان لقهرها والسيطرة عليها. ونحن نعرف بأنه ما أن تترك هذه الشعوب بدون أن يفرض عليها النظم والقوانين التي يعمل فيها العالم كله تقريبا، ستعود إلى استلهام فترات القهر والسيطرة التي تعتمد على الفكر الديني ما يشبه إلى حد بعيد الفكر الأخواني اليوم أو الداعشي الذي عانينا منه مؤخرا.

تجربة يوسف العظمة ودفعه الأمور باتجاه المواجهة مع الفرنسيين ومقتله في معركة ميسلون تركت أثرا كبيرا على شعوب المنطقة خاصة في سوريا، فقد حاول انشاء جيش “عربي” ليمنع سيطرة الفرنسيين على الأرض، وقام بتوزيع بعض الأسلحة وتجنيد العصابات لاثارة القلاقل في أنحاء منطقة سيطرة الفرنسيين، وقد دفع بالفاعور وجماعته لفرض رفع العلم العربي وتطويع الناس بالقوة، ومن هنا كان الهجوم على عين إبل والمجزرة التي ارتكبت فيها وردة الفعل الفرنسية التي لم تعد تؤمن بأن فيصل يسيطر على الأرض وبأنه قادر أن يحفظ كلمته ما يهدد سمعة فرنسا وخطتها لاعطاء شعوب المنطقة هامشا من الحكم الذاتي الذي يحافظ على الهدوء والاستقرار.

وقد عانى العراق ايضا من بقايا الضباط الأتراك هؤلاء الذين بدأوا الثورة فيه في نفس الوقت الذي كان يوسف العظمة يقوم بتجربته في تأليب السوريين ضد فرنسا أي ايار سنة 1920 وبالفعل عانى العراق مما سمي ثورة بدأت في المدن بتهييج المواطنين ضد الانكليز ومن ثم تطورت لتشمل تحرك العشائر حيث تهاجم مراكز الدولة وحامياتها ومن ثم يبدأ القتل والسلب. وقد بقيت هذه الثورة إلى أن قام البريطانيون باحضار قوة عسكرية من الهند ساهمت بفرض النظام وبالتالي استقدموا فيصل وعينوه حاكما على العراق.

في أسفل صورة الضابط التركي يوسف العظمة