علي الأمين: الاستثمار الإيراني في لبنان الرهينة

86

الاستثمار الإيراني في ‘لبنان الرهينة’
علي الأمين/العرب/09 كانون الثاني/18

المسار الذي اختطته إيران في لبنان يعكس منهجا ليس الداخل الإيراني بعيدا منه، فالأولوية كانت للبنية الأيديولوجية المتمثلة بالقوة العسكرية، وجعل لبنان رهينة.

ظل لبنان منذ قيام النظام الإسلامي في إيران، محل اهتمام وتركيز من قبل قيادة هذا النظام ولا سيما عبر الحرس الثوري الإيراني الذي أقام قاعدة عسكرية له في البقاع اللبناني في العام 1982 إثر اجتياح إسرائيل لبنان وبعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية منه، وتم ذلك تحت إشراف الجيش السوري الذي كان متواجدا في هذه المنطقة، بحيث كان انتقال عناصر الحرس الثوري وسلاحه يتم عبر الأراضي السورية إلى لبنان ذهابا وإيابا.

في ذلك العام تم تأسيس حزب الله من قبل جهاز الحرس الثوري، الذي عمل على تدريب وتجهيز عناصره بالسلاح والعتاد وبإشراف مباشر من قبله، وترافق مع ذلك بناء جهاز تنظيمي أمني عسكري من دون أن يكون له أي جهاز سياسي، واستمر على هذه الحال حتى 16 فبراير من العام 1985 حين أعلن حزب الله عن وجوده من بيروت عبر ما سمي آنذاك بـ“الرسالة المفتوحة”. حتى ذلك الحين بقي الجانب السياسي هامشيا، فحزب الله ظل في أدبياته حزبا ساعيا إلى تحرير القدس وإلى قيام الجمهورية الإسلامية على صورة النموذج الإيراني المتمثل بولاية الفقيه.

في ذلك الحين كان حزب الله مرفوضا، إلى حد بعيد، من القوى السياسية اللبنانية اليسارية واليمينية، اصطدم عسكريا مع أحزاب قومية وماركسية، وقامت معارك شرسة بينه وبين حركة أمل، على امتداد الديمغرافيا الشيعية، على أن الغطاء السياسي والأمني السوري والدعم المالي الإيراني وفوضى الحرب الأهلية التي كانت قائمة في لبنان أتاحت لحزب الله أن يثبت حضورا مؤثرا في لبنان لكنه ظل بعيدا عن الحياة السياسية، مع استمراره كقوة عسكرية أمنية نجحت في أن تحقق الدور المطلوب إيرانيا على هذا الصعيد.

لبنان في مرحلة الثمانينات كان ساحة مفتوحة، ومنصة لتوجيه رسائل خارجية عبره من دون أن يتحمل المرسل أي تبعات سياسية، الدولة غائبة أو مغيبة، إسرائيل تحتل جزءا من لبنان، فكان لبنان في ذلك الحين فرصة ذهبية للضغط الإيراني على الدول الأوروبية وأميركا من خلال إطلاق عمليات خطف الرهائن في بيروت، حيث بدأت منذ العام 1983 عمليات خطف لرهائن غربيين أتاحت حينها لإيران استعادة مليارات الدولارات المجمدة في أوروبا، من خلال خطف عشرات من الدبلوماسيين والأكاديميين وغيرهم من جنسيات أوروبية وأميركية في فترات متفاوتة خلال عقد الثمانينات، ووفرت هذه الصفقات شراء السلاح الغربي لإيران خلال حربها مع العراق، كما وفرت للنظام السوري مزيدا من الاعتراف بدوره كضابط لإيقاع المواجهة الإيرانية الغربية، ذلك أن الإفراج عن الرهائن كان يتم عبر القناة السورية التي أرادتها إيران والدول الغربية معا.

هذه الوظيفة الإيرانية في لبنان لم تتغير في المضمون، الوظيفة الأمنية والعسكرية هي الأساس، وخدمة المشروع الإيراني كانت لبّ السياسات التي أسست لوجود حزب الله، ذلك أن إيران عبر منظومة ولاية الفقيه، عززت من شأن الولاء لأيديولوجيتها في البلدان العربية، لا بهدف قيام دول فعلية في هذه المناطق تحالف إيران أو تؤيدها، بل بغاية إيجاد نظام مصالح يرتبط بالكامل بنظام مصالح السلطة في إيران، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال البعد الأيديولوجي الذي يقوم بمضمونه على أولوية الولاء للمركز أي مركز السلطة في إيران أولا، وعلى ارتباط مالي بهذا المركز. وهذا ما يفسر أن ولاية الفقيه لم تُعنَ بموضوع الدولة في بنيتها الإدارية أو السياسية والاقتصادية، ولم تروج لمفهوم للتنمية أو لتعزيز الهوية الوطنية. جوهر الاهتمام اقتصر على كيفية إبقاء الدولة أو مشروع اكتمالها معلقا وغير منجز باعتبار أن هذه الوضعية هي الكفيلة باستثمار نفوذها في سياق دعم مشروعها الإقليمي.

يعكس هذا المسار الذي اختطته القيادة الإيرانية في لبنان وغيره من الدول المحيطة بإيران، منهجا ليس الداخل الإيراني بعيدا منه، فالأولوية كانت للبنية الأيديولوجية المتمثلة بالقوة الأمنية والعسكرية، والسيطرة والتحكم بمفاصل القرار، وجعل البلد رهينة قدرتها التعطيلية بل التدميرية له، لهذا لن تجد في لبنان الذي تسيطر منظومة ولاية الفقيه على مفاصل القرار السياسي والأمني فيه، أي بعد اقتصادي أو إنمائي في العلاقة معه، فاللبنانيون لا يعرفون شيئا عن المنتجات الإيرانية في بلد توجد فيه كل منتجات العالم الاستهلاكية، وليس هناك من اتفاقيات اقتصادية بين الدولتين تعكس حجما يعتدّ به على صعيد التبادل التجاري مثلا، إذ أن مجمل الصادرات الإيرانية إلى لبنان لا تتجاوز الخمسين مليون دولار سنويا.

يمكن القول إن سيطرة النظام الإسلامي في إيران على السلطة فيها، ترتكز بالدرجة الأولى على سيطرته على الثروة النفطية والتحكم بعملية توزيعها، فالنفط في إيران يشكل 80 بالمئة من قيمة الصادرات الإيرانية إلى الخارج، والنظام في إيران معني برعاية فئة معينة من المجتمع وهي الفئة التي تشكل عنصر الحماية الأيديولوجية له، والتي تتركز في الحرس الثوري ومؤسساته والمرتبطين بنظام مصالحه، وهؤلاء يشكلون نحو عشرة ملايين مواطن يشكلون ما نسبته واحد من ثمانية من مجموع الإيرانيين، فيما نشأت أجيال في الأربعين سنة الماضية، بعيدا عن النظام وأيديولوجيته وشعاراته، فالشعارات لم تحقق إلا المزيد من إفقار الشعب ومن عزلة إيران، وسوء الإدارة والفساد جعلا الشعب الإيراني منفصلا في تطلعاته إلى حد بعيد عن خطاب السلطة وسياستها، وهو أقرب إلى رهينة منه إلى مواطن ينتمي إلى حضارة موغلة في التاريخ وإلى شعب يفتخر بإنجازاته الحضارية في العالم خلال القرون السابقة.

مفهوم الرهينة والابتزاز وبيع الشعارات الرنانة هي أبرز ما يمكن أن تعتد به السياسة الإيرانية في تعاملها مع شعبها ومع الدول المحيطة بها، بل يمكن القول إن إيران التي يعتقد البعض أنها قدمت للبنان الكثير في سبيل الدفاع عنه في مواجهة إسرائيل، هي خدعة انطلت على الكثيرين من العرب والعجم، لأن مليارات الدولارات التي كسبتها أو استعادتها إيران في عقد الثمانينات من الدول الغربية كان لبنان السبب في عودتها. لبنان دفع ثمن الرسائل الإيرانية إلى الغرب تدميرا لمئات المدن في حروب عبثية كانت لإيران حساباتها الدولية والإقليمية من خلالها ولم ينل لبنان منها إلا الدمار.

أما القول إن إيران هي من أعادت الإعمار فذلك خديعة كبرى. من أعاد بناء ما دمر بسبب الحرب الإسرائيلية، بالإضافة إلى الشعب اللبناني، هي الدول العربية ولا سيما السعودية والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة، هذا ما حصل بعد حرب عام 2006 وبعد تحرير عام 2000، وبعد كل عدوان كانت تقوم به إسرائيل منذ عام 1978. الإيرانيون اكتفوا ببنيتهم الأمنية والعسكرية وبعض المشاريع التي لم تصل إلى عشرة بالمئة مما قدمته دولة الكويت إلى الدولة اللبنانية حتى لا نقول السعودية. فيما مكاسب القيادة الإيرانية من استثماراتها اللبنانية لا تعد ولا تحصى وفي خلاصتها دمار المنطقة.