الياس الزغبي: إستقالة تأسيسيّة

189

إستقالة تأسيسيّة
الياس الزغبي/07 تشرين ثاني 2017

حتّى الآن، يتمّ تعامل المسؤولين مع استقالة الرئيس سعد الحريري بالشكل النمطي التقليدي المعروف في التعامل مع استقالات (أو إقالات) الحكومات السابقة. بل، بنمطيّة أشدّ سوءاً تركّز على شكل الاستقالة ومكانها وصيغة كتابها ووضع مقدِّمها، كما فعل نصرالله في خطابه المرتبك، وكما يفعل رئيسا الجمهوريّة ومجلس النوّاب في بحثهما عن الصورة وتجاهلهما المضمون، وتريّثهما في اتخاذ موقف دستوري بحجّة انتظار توضيح مباشر من الحريري نفسه.
والحقيقة التي يحاول هؤلاء، وسواهم من المسار نفسه، تجاهلها، هي أنّ الاستقالة أبلغ، وأعمق أثراً، وأبعد مدى، ممّا يرون أو يشتهون.
فهي استقالة كامنة في مضمونها غير التقليدي، وفي دوافعها المتعدّدة المستويات السياسيّة الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، وتضميناتها ما فوق السياسة والدبلوماسيّة.
لذلك، لا يجوز التعامل بأسلوب تقليدي مع حدث غير تقليدي، ولا يمكن اللجوء إلى أفكار مكرّرة ومجرَّبة مع مرحلة جديدة بكلّ المعاني والأبعاد.
مثلاً، لا يصحّ السعي إلى تعويم الحكومة بالأسلوب الاسترضائي والتطميني ذاته، عبر إحياء ما عُرف بـ”التسوية”، لأنّ تلك التسوية كانت ستاراً، بل خدعة، لتوسيع رقعة النفوذ الإيراني عبر ذراعه الضاربة “حزب الله”، بحيث تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه شاهد زور، من صفقة الجرود على حساب السيادة وتجويف انتصار الجيش اللبناني، إلى فرض تعيين سفير جديد لدى النظام، مروراً بكلّ انحرافات السياسة الخارجيّة خارج نهج “النأي بالنفس” وتحييد لبنان عن الصراعات.
وكان الانخراط المباشر لـ”حزب الله” في إطلاق الصواريخ على عاصمة المملكة العربيّة السعوديّة، بمثابة الانذار الأخير لانزلاق لبنان في وحول المحور الإيراني، ولم يعد خافياً أنّ الاستقالة ذات صلة مباشرة بتحويل لبنان إلى منصّة إيرانيّة في الحرب ضدّ العرب والسعوديّة تحديداً.
كما لا يصحّ السعي إلى تشكيل حكومة جديدة على أساس “التسوية” نفسها، أيّ التعامي عن خطورة ما يقوم به سلاح “حزب الله”، والتسليم بخرقه السيادة وانخراطه الكامل في الحروب الإيرانيّة، بحجّة مقولتَي “الاستقرار” و”الوحدة الوطنيّة”. فقد ثبت أنّ لا استقرار ثابتاً بشروط السلاح غير الشرعي، ولا وحدة وطنيّة في التفرّد بقرارات السلم والحرب، ولا إصلاح وتوازن وميثاقيّات وشراكة في القرارات الفرعيّة، طالما أنّ القرارات الوطنيّة الكبرى مصادرة.
وهنا، يجب التبصّر في خطيئة العودة إلى استنساخ سقطات سابقة، وهي ثلاث على الأقلّ: “غزوة 7 أيّار” 2008، بدعة “الثلث المعطِّل” وفق اتفاق الدوحة، والانقلاب الأمني السياسي الذي جاء بحكومة ميقاتي و”القمصان السود”.
لا يمكن إعادة إنتاج هذه التجارب الثلاث التي أورثت كلّ الأزمات السياسيّة على مدى عقد من الزمن، بما فيها من فراغات خطيرة في الحكم والحكومات.
كما لا يمكن إحياء “التسوية” العرجاء والمفخّخة، بعد سقوطها المدوّي يوم السبت الفائت.
فما هو سبيل الخروج من الأزمة، إذاً؟
حين نلتقي على القول إنّ مرحلة ما بعد الاستقالة ستكون مختلفة جذريّاً عمّا قبلها، يجب أن نبني أيَّ تسوية عتيدة على أسس جديدة.
هذه الأسس تكمن في توجّه شجاع للحكم والسلطة بتحرير القرار اللبناني من هيمنة إيران عبر “حزب الله”، وإعادة لبنان إلى بيئته التاريخيّة الطبيعيّة التي كرّسها دستوره، أي “عربي الهويّة والانتماء”، وإبلاغ من يعنيهم الأمر بهذا القرار علناً، وبدون أي مواربة أوخجل.
إنّه سلاح الموقف الشجاع المطلوب لإنقاذ لبنان، يشهره المسؤولون الرسميّون والقيادات السياسيّة والروحيّة والفاعليّات الشعبيّة، وتُشكّل على أساسه الحكومة الجديدة.
إنّها لحظة تأسيسيّة تاريخيّة يجب ألاّ تضيع في ميوعة الحكّام ومسايراتهم ومصالحهم.
وإذا قال قائل: ما حيلتنا و”حزب الله” طاغٍ جبّار يستطيع التهام لبنان في ساعات…
فإنّ الجواب يجب أن يكون قويّاً وفوريّاً وحاسماً: لا يقوم وطن حرّ، ولا تُبنى دولة سيّدة ومستقلّة بأنصاف الحلول وأرباع المواقف وأشباه الرجال.
تريدون لبنان مركزاً لحوار الحضارات ورسالة سلام؟ كونوا على مستوى مطلبكم.
وإلاّ، فإلى المجهول في الحروب المتناسلة انزلقوا… والسلام.