الدكتورة رندا ماروني: أيديولوجيات وقوميات، عنوان زمن فات

421

أيديولوجيات وقوميات، عنوان زمن فات
الدكتورة رندا ماروني
29 نيسان/17

لقد شكلت الأيديولوجيات الخادعة والقوميات المختلقة عاملا مفرملا في محطات عدة لمسيرة الاستقلال التام اللبناني، إلا أنها لم تكن يوما رابحة، ولم تستطع يوما أن تحقق هدفا ولا إستقرارا ولا استمرارا لمشاريعها. حدثين بارزين شهد عليهما هذا الأسبوع يرتبطان مباشرة بتاريخ لبنان وبمسيرته الاستقلالية، فذكرى الجلاء أتت لتذكرنا بتاريخ نضالي طويل في سبيل الحرية، لم تكتمل فصوله بعد في ظل هجمات أيديولوجية مفبركة ومنظمة لم تتعب جهلا ولم تتعظ ممن سبقها، كما أتت محاكمة قاتل البشير، الذي سعى لدولة سيدة حرة مستقلة، في ظل استنهاض عصبيات متخلفة، لا يدرون جليا بماذا يعتقدون، وإلى أين هم سائرون.

ما ورد في هذه المقدمة من مقاربة لم يكن إلا انعكاسا علميا مبرهنا، وربما أيضا كمثل وعبرة لمن يناضل في هدف مجهول الهوية متعدد الإقامة والانتماء. لقد كان للمحتل على مر تاريخه عملا منظما في سياسة التلقين الأيديولوجي، وعمل فيها جاهدا مقتنعا بنتائجها البناءة، فجعل لها إعدادا خاصا متقن الدراسة، محترف الصياغة، ملون العناوين، أعمى البصيرة، فاق غروره وتناسى المعطيات الواقعية، رسم الهدف وسار طريقه بعجلات الترغيب والترهيب، والقتل والإنكار، حتى بعد خروجه لم يتوان يوما عن سياسة وضع اليد عند كل مفترق أو حدث أو استحقاق من خلال أدواته، فبصمته لا تزال حاضرة بكل شاردة وواردة، ولم تهمد يوما همته في محاولة استعادة عصره الذهبي، بالرغم من جميع المشاكل التي يعيشها داخل حدوده، فنظرته التوسعية المتوارثة من المؤسس ما زالت تشكل هدفا من أهدافه.

هذه السياسة التلقينية التي أثبتت فشلها في الداخل السوري وخارجه، والتي استمرت في لبنان طيلة فترة الاحتلال، ما زال هناك من يتمسك باعتمادها وتمريرها على حساب حق الشعب اللبناني بدولة يحكمها الدستور وسيدها القانون، فمنذ العام 1970 ومع وصول حافظ الأسد إلى سدة الرئاسة جعل من أولوياته الإعداد المحكم للخطاب الأيديولوجي وتزينيه بعبارات طنانة ورنانة يخفي في ظلها ما يحيكه من أهداف ومخططات ومنافع معتقدا أنه بهذه الطريقة سيلغي تاريخ شعب وسيفتك بالذاكرة الجماعية وسينتج مواطن خاضع مبرمج لا يستجيب إلا لصوت مرهبه، مستخدما كل الأساليب التوتاليتارية التي استوحاها من النظام الهتلري، ولم يكن ولي العهد بأفضل حالا بل مكملا لما رسمه جهابذة الفكر التلقيني المبرمج للعقول والمخون للمعارض والقامع للفكر والعبد لأسلوبه الواثق والمصاغ بالغباء المتعالي، إلى أن انقلب السحر على الساحر وأثبتت التجربة أنها سياسة فاشلة لا يتبعها سوى فاشلون، حيث لم ينفع هذا التاريخ الطويل من التلقين الأيديولوجي والتدخين وغسل الأدمغة، فانهار العمل الشاق الذي استمر لسنوات طويلة عند أول فرصة أتاحت للشعب برفع صوته والمطالبة باسترجاع حقه في تقرير مصيره وتصويب خياراته وتحديد أهدافه، وما حصل في الحرب داخل سوريا كما في لبنان أثبت وبالدليل القاطع بأن الشعوب وتاريخها لا تلغيها أهواء مهووسي سلطة ولا مشاريع منزلة طارئة على أهدافها ومبتغاها الكامن في موروثاتها.

لقد كان الفشل ذريعا، في أسلوب مكشوف لإيديولوجية خادعة، تطرح عناوين، تقول أشياء وتضمر أشياءًا أخرى، فبربكم ألم تتعلموا بعد إن هذه السياسة التلقينية والتخوينية والفوقية والمبررة للتجاوزات تحت شعارات واهية، والمتعجرفة والمتصابية، هي سياسة عجوز، ليس بحكمتها، بل عجوز بعمرها المجايل لعصر البرابرة؟ لم تؤخذ العبر بالحسبان وانتقل الدور التلقيني من الأصيل إلى الوكيل في لبنان، وأتت ذكرى الجلاء لتبرز واقعا ما زال مستمراً لم ينتهي بعد وكأن شيئا لم يتغير، سياسات تنفذ ومصالح تمرر والغطاء الأيديولوجي جاهز الحضور لصياغة الأفعال الشاردة وتقديمها كإنجازات خالدة.
لقد عمل هذا الأسلوب الملتوي على تقويض المسيرة الاستقلالية، وعلى تخوين رواده وتصفيتهم جسدياً، ظنا منه أنه بهذا سيقفل الصفحة ويفتح أخرى لينص فيها ما يريد، فبحسب النص الأيديولوجي الجديد، الحرب هي حرب على الإرهاب تارة، وتارة على العدو الصهيوني، وأخرى يجمعهما معا ليصبحوا حربا واحدة، فمحاربة الإرهاب هي محاربة العدو الصهيوني، ومن لم يستوعب من التلاميذ هذا الدرس الأيديولوجي الجديد، هو ليس فقط بتلميذ كسول بل هو تلميذ خائن مبرر للإرهاب ومبرر للاعتداء الصهيوني، فإذا أردت محاربة العدو الصهيوني عليك التوجه إلى سوريا لنصرة نظامها الساريني، والاشتراك في نحر وإبادة الشعب السوري، فكل شي مباح تحت الستار الأيديولوجي، وكيف لا وهو ستار سحري يخفي المآرب الحقيقية لصائغيه، كما كانت العبارات الشهيرة للأسد الأب ك” شعب واحد في دولتين” تحوي في طياتها أطماعا لا تنتهي بالسيطرة الكاملة على الكيان اللبناني وابتلاعه، وعباراته الببغائية حول الاحتلال والتحرير والحرب مع الكيان الصهيوني وحق الشعب الفلسطيني، حيث كلها بقيت جملة عناوين أيديولوجية أتاحت له إحكام السيطرة في الداخل اللبناني والعبث فيه فسادا وقتلا ودمارا.

فكما كانت الأيديولوجيات الخادعة مفرملا لمسيرة الاستقلال في لبنان كذلك كانت فكرة القوميات، فالقوم هم من يعيشون في دولة واحدة يظللها حكم القانون، وليسوا أبناء المذهب الواحد المنتشرين في أصقاع الأرض. فعبارات القومية والدولة والأمة هي عبارات حديثة حملها العصر الحديث للدلالة على دولة القانون والمؤسسات التي تفصل بين الدين والدولة، ومن جملة المقتبسات في دول العالم الثالث أتى من أقتبسها، إنما سجل هذا الاقتباس أهدافا مختلفة، فأتى بعضها فعلا حاملا لفكر علماني مصاغ في كيان دولة حديثة شبيهة بالدولة الغربية الصاعدة، كما كان في انطلاقة فكرة القومية العربية، وأتت القومية في طروحات البعض الآخر لتربط في أساس تكوينها تضامن مذهبي عابر للحدود كما هي الحال في فكرة القومية السورية. لقد كان رواد القومية العربية الأوائل مسيحيون، وأتت الفكرة لإعلاء شأن المسيحيين في محيط مسلم تدعو إلى إقامة دولة علمانية عربية بعد زوال الاحتلال العثماني، إلا أنه وبعد زوال الاحتلال ما لبث أن تبخر الطرح العلماني في محيط الغالبية الساحقة فيه مسلمين.

أما فيما خص القومية السورية ظهرت بغطاء علماني إنما تحوي في مضمونها تضامن مذهبي، على خلفية أن طائفة الروم الأرثوذكس لديها امتداد على كامل خريطة سوريا الكبرى “الهلال الخصيب”، فإذا نظرنا إلى المقومات الحقيقية لاستمرار هذه الفكرة نراها معدومة ليس لوجود دول ذات حدود فحسب إنما أيضا لعدم توافر أرضية واقعية متجاوبة، إن الانتماء الحقيقي الوحيد لأتباع هذه الفكرة هو الانتماء للأرض التي يعيشون عليها. ويبقى السؤال ما هي الأرضية المتينة التي تبني أتباع هذه الفكرة عليها سياساتها، ولما العداء لمن حمل فكرا استقلاليا؟ هذا العداء الذي ترجم أخيرا أثناء جلسة محاكمة قتلة البشير، لقد كان تاريخ لبنان حافلا بالتجاوزات والشواذات عبر صياغة أيديولوجيات وابتكار قوميات، الأولى خادعة والثانية هرطقات.
أيديولوجيات وقوميات
عنوان زمن فات
الأولى خادعة
والثانية هرطقات
تجلي العقول
تغير الذبذبات
مقتنعة أنها
ستصنع سبات
لماض مضى
ولغد آت
وأخرى تهرطق
بأبهى القراءات
تنسج خيالا
تعيش خيالات
تخرق حدودا
لتلحم مذهبيات
ترسم أنظمة
تخرق المحرمات
توصل أجساما
ترفضها بالذات
تحور تدور
في توه المتاهات
تخلف بعينه
في حال ثبات
ينكر الآخر
ويؤلله الذات
يعمل جاهدا
ليعلي الهامات
يصيب يدمي
يكثف الهجمات
يكتب تاريخا
فينص فبركات
لعبة بغيضة
روادها أدوات
إنها أيديولوجيات
إنها قوميات
من زمن فات
ما زالت تقص لنا قصصا
وتروي حكايات