لبنان ودع سمير فرنجية بمأتم رسمي وشعبي الرقيم: صاحب فكر ثاقب وثقافة سياسية مبنية على التجرد والمبادىء الرفيعة/كلمات في وداع سمير فرنجية

235

لبنان ودع سمير فرنجية بمأتم رسمي وشعبي الرقيم: صاحب فكر ثاقب وثقافة سياسية مبنية على التجرد والمبادىء الرفيعة
وطنية/13 نيسان/17

ودع لبنان بمأتم رسمي وشعبي، النائب السابق سمير فرنجية، وترأس صلاة الجنازة التي أقيمت لراحة نفسه في كنيسة مار مارون الجميزة، ممثل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي المطران يوسف بشارة، وعاونه رئيس أساقفة بيروت للطائفة المارونية المطران بولس مطر ولفيف من الكهنة، في حضور ممثل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وزير الثقافة غطاس الخوري، ممثل رئيس مجلس النواب نبيه بري النائب أيمن شقير، ممثل رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري النائبة بهية الحريري، الرئيسين ميشال سليمان وأمين الجميل، الرئيس حسين الحسيني، وزير الإعلام ملحم الرياشي ممثلا رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، وزير الشؤون الإجتماعية بيار بو عاصي، وزيرا الدولة لشؤون التخطيط ميشال فرعون ولشؤون المرأة جان أوغاسبيان، سفيري فرنسا إيمانويل بون والفاتيكان غبريال كاتشا، رئيس “اللقاء الديمقراطي” النائب وليد جنبلاط، النواب: رئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون، رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، بطرس حرب، نديم الجميل، وائل أبو فاعور، غازي العريضي، علاء الدين ترو، أحمد فتفت، نبيل دوفريج واسطفان الدويهي وممثل قائد الجيش العماد جوزاف عون العميد بيار عساف.
كما حضر الوزراء السابقون: غسان سلامة، طارق متري ورمزي جريج، النواب السابقون: فارس سعيد، الياس عطالله، منصور غانم البون ونايلة معوض، سفير لبنان لدى الفاتيكان جورج خوري، ممثل المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان العميد الياس الطبجي، الأمين العام لحزب الوطنيين الأحرار الياس أبو عاصي، رئيس حركة “التغيير” إيلي محفوض، رئيس حركة “الإستقلال” ميشال معوض، نائب رئيس حركة “التجدد الديمقراطي” الدكتور أنطوان حداد مترئسا وفدا، مستشار رئيس الحكومة داود الصايغ، العلامة السيد علي الأمين، نادر الحريري وفاعليات سياسية وحزبية وعائلة الراحل.
الرقيم
بعد الإنجيل المقدس، تلي الرقيم البطريركي بإسم الراعي وجاء فيه: “في مثل هذا اليوم المقدس قدم يسوع في ليلة آلامه وموته للآب السماوي قربان جسده ودمه تحت شكلي الخبز والخمر ذبيحة فداء ووهبهما غذاء روحيا للمؤمنين، بهذه الذبيحة شارك عزيزكم وعزيزنا المرحوم سمير بآلامه الجسدية والمعنوية واغتذى من القوت الإلهي غذاء الأرواح وتقوى في مسيرة الدنيا، وعبر من عالمنا إلى بيت الآب في زمن فصح المسيح وهو العبور من الموت إلى القيامة.
مع كل اللبنانيين وسواهم تلقينا بالاسى الشديد حلول الساعة المرة التي حاربها مع أسرته ومحبيه الأطباء بين لبنان وفرنسا منذ 33 سنة لكنها حانت في أقدس وقت من نور الرجاء والسلام المنبثق من قيامة المسيح المنتصر على الخطيئة والشر والموت، فانعسكت فيها أضواء شخصيته، إنه إبن إهدن زغرتا المدينة المارونية العريقة التي أعطت الكنيسة ولبنان عددا من الوجوه المشرقة، وهو سليل بيت سياسي نذر نفسه لخدمة الشأن العام. والده المرحوم حميد بك فرنجية النائب في البرلمان اللبناني لأكثر من دورة، والوزير المؤتمن على حقيبة الخارجية والمغتربين في أكثر من حكومة، والزعيم الماروني اللبناني ذو البعد العربي الذي ترأس الوفد اللبناني السوري سنة 1946 لمفاوضة جلاء جيش الإنتداب الفرنسي عن لبنان وسوريا معا.
في هذا البيت الكبير تربى على القيم الإنسانية والوطنية وعلى العلم مع الشقيقين والشقيقتين الذين نسج معهم روابط الأخوة الصادقة، على هذا الإرث الوطني الغني تفتحت عينا المرحوم سمير وعقله وقلبه وهو على مقاعد الدراسة لدى الآباء اليسوعيين في كلية السيدة الجمهور، ثم في جامعة القديس يوسف متخرجا من كلية الحقوق. وجاءت أحداث زغرتا الدامية سنة 1957 و 1958 والفالج الذي أصاب والده من جرائها لتخلق في داخله ثورة يسارية ثقافية أطلقت عليه لقب البيك الأحمر، وهي ثورة أرادها في نضاله مدرسة للتغيير السياسي في المسار اللبناني نحو ما يضمن العيش المشترك ولغة الحوار والوحدة الوطنية والسيادة والمواطنة وحرية القرار، فإذا به ينتقل من الأحمر ليستقر في الأبيض بياض القلب وصفاء الضمير وهدوء الكلمة الصائبة والإبتسامة المعبرة، فأصدر كتابه باللغة الفرنسية تحت عنوان رحلة إلى أقاصي العنف بحثا عن ينابيعه السحيقة في النفس البشرية عامة وفي المجتمع اللبناني خاصة، فإذا بهذا الكتاب يعلمنا كيف نعيش معا بسلام مختلفين ومتساوين معتمدين الوصل والتسوية والمصالحة، فسمي الكتاب رحلة إلى أقاصي السلام فذهب سنة 1990 إلى تأسيس المؤتمر الدائم للحوار اللبناني بمباركة المرجعيات الدينية.
وفي سنة 2000 تنفيذا لما دعي إليه نداء المطارنة الموارنة في شهر أيلول سنة 2000، ساهم مع زملاء له من رجال فكر وسياسة في إنشاء لقاء قرنة شهوان وفي 16 شباط 2005 أطلق بداية إنتفاضة الإستقلال حتى سمي ضميرها وصولا إلى ثورة الأرز وحركة 14 آذار وهو فيها كلها واحد من رموزها الأساسيين والقلب والروح والضمير، وكونه صاحب فكر ثاقب وثقافة سياسية مبنية على التجرد والمبادىء الرفيعة حاول أن يجسد هذه المبادىء خلال وجوده كنائب في الندوة البرلمانبة من سنة 2005 إلى سنة 2009. وبفضل إتزانه الفكري والسياسي راح يقدر الأمور بميزان الصائغ: فدافع عن اليسار وكان من أشد منتقديه في لبنان، ودافع بقوة عن القضية الفلسطينية وكان من أشد منتقدي تجربة الفلسطينيين في لبنان، دافع عن الموارنة من خلال المساهمة في لقاء قرنة شهوان وكان من أشد المنتقدين للمارونية السياسية، دافع عن مجموعة 14 آذار وهو أحد رموزها وكان من أشد منتقدي تجربتها السياسية. رحب بإتفاق الطائف لكنه انتقد بشدة عدم تطبيقه نصا وروحا، وتنمى مثيله لكل بلد من بلداننا العربية.
المرحوم النائب سمير رجل مرهف العاطفة والمودة والإخلاص عاشها تجاه زوجته السيدة آن أنطون موراني وإبنه وإبنته وشمل بها كل أهل البيت وأنسباءه، عمه رئيس الجمهورية الأسبق المرحوم سليمان فرنجية، وأسرته وخاله وخالته وحميه وعائلاتهم. وأحب كنيسته المارونية وكان قريبا للغاية من سلفنا صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ورجل الثقة عنده في الفكر الوطني، وهو يشاطركم الأسى والصلاة فشارك في أعمال المجمع البطريركي الماروني وفي صياغة نصه الخاص بالكنيسة المارونية والسياسة. وشارك في مشروع مختصر تاريخ الكنسية المارونية فكان خير معاون ومشير للأمين العام لهذا المجمع ورئيس لجنة المتابعة المطران يوسف بشارة.
بعد هذه الرحلة السلامية من العطاء من أجل عائلته ولبنان يسلم الروح بسلام مع الله والذات والناس، منقى بمسحة الميرون ومزودا بالقربان عربون الحياة الأبدية، راجيا من جودة رحمة الله أن ينعم بالمشاهدة السعيدة في السماء”.
التعازي والدفن
وبعد القداس تقبلت عائلة الراحل التعازي من الشخصيات المشاركة، ثم نقل جثمان الراحل إلى مسقط رأسه في إهدن حيث سيوارى في الثرى في مدافن العائلة.

من سمير جعجع إلى سمير فرنجية
الخميس 13 نيسان 2017
صدر عن المكتب الاعلامي لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، البيان الآتي:
“صديقي سمير فرنجية…
عرفتك في الحرب وبعدها من بعيد، كنت أثمّن فيك نضالك من وحي قناعاتك لا إرثك الشخصي، وكنت أثمّن أيضاً حرصك الدائم على الحوار وبحثك المتواصل عن المساحات المشتركة التي تُخرج لبنان من أزماته وتعيده كما نحب وتحب: وطن الرسالة.
صديقي سمير،
لا أخفي إعجابي بشخصك كونك من القلة القليلة التي لا تيأس مهما كبُرت التحديات، ولا تتراجع عن هدفها مهما واجهت من صعوبات، ولا تعير الأهمية للمواقع ولا المناصب، ولا تجد نفسها سوى بين أفكارها المتجددة بحثاً عن خلاص وطني منشود.
صديقي سمير،
كنتُ متابعاً لحركتك ومواقفك من وراء قضبان الزنزانة، ولا يهم حجم تلك الزنزانة، أكانت صغيرة أم كبيرة على مساحة لبنان، إنما المهم أنها جمعتنا في قضية واحدة تبلورت معالمها مع نداء بطريركي تاريخي ولقاء سياسي (لقاء قرنة شهوان) لعب دوراً أساسياً في إخراج الجيش السوري من لبنان.
صديقي سمير،
وبعد ان استعاد لبنان حريته منتفضاً على الاحتلال السوري ومستعيداً استقلاله التقينا في 14 آذار، فعرفتك عن قرب مناضلاً شرساً لا يتعب ولا يكل دفاعاً عن قناعاته وأفكاره، وقد كنت رمزاً من رموز هذه الحركة التي كلّ همّها أن يستعيد لبنان دوره الحضاري كمساحة تلاقٍ وحوار وتفاعل تجسيداً للعيش معاً الذي شكّل قضيتك الأولى والأخيرة، ولو كانت مقاربتينا لطرق الوصول إليها مختلفتين.
صديقي سمير،
سنفتقد إليك، سنفتقد إلى مبادراتك، سنفتقد إلى عصبيتك التي تعكس صدق شخصيتك، سنفتقد إلى دورك وحضورك وألمعيتك. أمثالك يا صديقي لا يموتون، بل يعبرون فقط من ضفة إلى ضفة تاركين خلفهم إرثاً من الفكر والثقافة والحوار دفاعاً عن الفكرة اللبنانية.
وداعاً سمير فرنجية…”.

عندما يقرّر أن يرتاح
مصطفى علوش /المستقبل/13 نيسان/17
«الحاكم اللي زهد بالملك واللذات والزاهد اللي حكم ضد الهوى والذات مات المسيح النبي ويهوذا بالألوفات» (أحمد فؤاد نجم)
أقفل سمير الكتاب على آخر الفصول الطويلة من حياته في النضال في مواجهة الغوغاء والجنون والشعبوية والتخلف. لكن ليس من السهل اختصار سمير فرنجية بكلمة مناضل، فقد تعدى ذاك السبعيني حدود النضال ليكون المفكر وسط غياب العقل والمبادر في ظل العقم والزاهد بين أصحاب الشهوات الجامحة، والمتفائل في وسط اليأس، وحتى في عز المرض والتعب، وحتى في قلب عاصفة الإرهاب التي جعلت البعض يزحفون من الخوف إلى أعتاب المتسلطين القتلة سعيًا وراء النجاة، لم يضيّع سمير البوصلة وبقي ليؤكد على أن التسلط والظلم هما منبع الإرهاب، وليقول أن النجاة من الإرهاب تبدأ بالقضاء على الظلم والفساد في الحكم.
لن يعرف سمير أنني تعلمت منه منذ أكثر من أربعة عقود كيف يمكن أن يكون العاقل خائناً لعشيرته يوم جنونها ويصمد رغم ذلك على ظلم ذوي القربى، وكيف يوصف بالكافر يوم تتعصب هذه العشيرة، ويتعنّت رغم الخطر على حياته، وكيف يصمد على الإبعاد، أو يلجأ إلى الهجرة الإختيارية على أن يذعن ويقبل بأن يسوقه حمار على رأس قافلة. كان سمير ذاك الصوت الصارخ في البرّية ضد جنون عشيرته في بدايات الحرب الأهلية. كنت مراهقًا ثوريًا في تلك الأيام ولكنني فهمت يومها من سمير كيف تتحدى الجنون الطائفي وتخرج سالمًا من التلوث به حتى ولو أصبح أشبه بوباء يجتاح غرائز كل الناس.
كان سمير يومها مع حفنة من الرجال بمثابة الدليل على أن الحرب ستنتهي، وأن منطق تصفية الآخر غير ممكن أو وارد، وأن السبيل الوحيد للإستقرار هو بفتح مساحات الحوار المبني على أساس الآذان السامعة للرأي الآخر بدل إطلاق العنان للصراخ ظنًا أن الصوت العالي يقنع أكثر من الصمت!
لقد تعلّمت من سمير أن مبدأ «العيش سويًا» له أربعة مستويات، أولها التعايش، وهو يقوم على القبول بالتسويات لأنه غير قادر على إكراه الآخر المختلف لأي سبب كان! المستوى الثاني هو التسامح، ويعني أن يسامح أحدنا الآخر على اختلافه حتى ولو ظن أنه أفضل منه أو أعقل أو أنه يملك الحقيقة دون غيره وحتى لو كان يملك وسائل إكراه الآخر ودون أية محاولة جادة لفهم الآخر لقبول اختلافه.
المستوى الثالث هو فهم الآخر كسبيل لتأمين العيش معًا من خلال المعرفة من دون أفكار مسبقة عن أسباب وشكل اختلافه وذلك في سبيل تخفيف أسباب الخلاف وعدم استفزاز الآخر حتى وعن غير قصد.
أما المستوى الرابع الذي قد يرقى إلى المثالية المطلقة فهو تفهّم الآخر المختلف على أساس عدم وجود حقيقة مطلقة يملكها فرد أو تحتكرها جماعة دون أخرى وبالتالي محاولة فهم حقيقة الآخر إلى حد وضع النفس مكانه مضافًا إليها التواضع إلى درجة الإعتذار وحتى التخلي عن الحقيقة التي نعتقدها مطلقة عندما نعرف أنها غير مطلقة، كما أنها تفترض تفهّم هواجس الآخر والمساعدة على التخفيف منها وحتى تبنّيها إن كانت مقنعة.
سمير فرنجية هو من تلك الفئة الرابعة النادرة التي تعبت فقررت أن تنام لترتاح.
(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»

إلى سمير فرنجية: رسالة لا تنتظر جواباً
إميل منعم/العربي الجديد/13 نيسان/17
خرجتَ على القبيلة مع من خرجوا، وتنكّرت لعصبية الدم. لا يؤسس الحبر قبيلة، ولا يلحم عصبية، وحين جعلتَه في حياتك الصاخبة متنا انتهيت مشرّداً، وها أنت تغادر هذا المشهد الأليم يتيماً بين يتامى، وغريباً بين غرباء.
لم نخسرك بموتك، بل قبل ذلك بزمن بعيد، فقد تراكم خسرانك، وتدرّج مع كل انتشارٍ للقطعان، ومع كل توسعٍ للمضارب التي تقيمها القبائل اللبنانية الجديدة والقديمة على مساحة الجمهورية. وحين مضى من بين مجايليك من يحزم أمتعته، ويخنق صوته، ويعود إلى حضن الجماعة، في أوسع عملية انهيار ثقافي وسياسي عرفتها بلادك، وقفت في صحن الدار شغوفاً بالنبرة الفريدة وبنور المستقبل، فربحك أصحاب الأمل وصانعوه علامةً بين العلامات الكثيفة بدلالتها على معنى الحياة. لقد صرعت المرض الفتّاك مراراً، وقبل أن يغلبك كان قد غلبك ملمّعو الأحذية وصناع الهزائم المنتشرون فطراً في الحياة السياسية اللبنانية. حين صمّوا الآذان دون نذيرك المتواصل. وغضّوا الطرف عن أصابعك التي تدل وتؤشّر، بدون كلل، على المصير المقبل بالدم والأشلاء. تمدّد أمامنا خسرانك يوماً بعد يوم، مع كل تقلّص لأخلاق البناة، ومع كل انتشار لأخلاق القناصين. مع كل انحسار لمواقف النبلاء، وكل صعود لحديثي النعمة. لا مكان في هذه البقاع لرجلٍ مثلك، لم يرث من بيت أبيه إلا ما صعب عليه التفريط به: النبل والكبرياء وصرف الحياة في البذل.
نشرتَ وأسست دور نشر. أنشأت صحفاً وكتبت في صحف. حاضرت وأدرت منتدياتٍ
“بقيت غريباً بين السياسيين لأنك كنت غريباً عن الشعبوية التي أصبحت مهارةً وصنعةً وآليات عمل”
وأشرفت على مؤتمرات. انخرطت في أحزابٍ ونظمت تجمعاتٍ. وعند كل أزمةٍ، أو منعطف يهدّد اللبنانيين مجتمعاً ودولة، كان لك حضور بليغ وصوت عاصف وإبداع للمخارج. كنت لبنانياً من دون تزمّت، وعربياً بغير ضيق. لم يكن انخراطك في الحياة السياسية إلا امتداداً لموقف المثقف الذي كنتَه بجدارة. المثقف الذي رسمت صورته الثقافة الفرنسية على مدى السنين، والتي كنت بين تلامذتها المجيدين. نبذت كل عصبيةٍ، وانتصرت للعقل، فشغلتْ مفردة الحوار أوسع مكان في قاموسك. وأصبح الحوار علماً على كل نشاط يحركك، ولازمةً من لوازم وجودك الفاعل.
خضت العمل السياسي، وبقيت غريباً بين السياسيين، لأنك كنت غريباً عن الشعبوية التي أصبحت مهارةً وصنعةً وآليات عمل. انشغلت بتجديد معنى المواطن والوطن، وبالصياغة الخلاقة للآفاق، فيما حولك تنهض الإحصاءات، وترتفع الجداول التي تحيل المواطنين أعداداً وأرقاماً موزّعة على الحظائر. لا يتم التعرف إليهم إلا في هوياتٍ ممسوخةٍ بلا عمقٍ ولا اتساع.
لقد سردت بحياتك سيرة كاملة لجيل كامل. ولدت ابناً لحميد فرنجية، أحد أبطال الاستقلال، وأحد أكبر القادة اللبنانيين نبوغاً وثقافةً ونزاهةً وسعة أفق. وعرفت جيداً بماذا تتزوّد من سيرته، وبأية خميرة تعجن خبز الآتي من الأيام. وحين وقعت النكسة في العام 1967، وكنت ما تزال طالباً جامعياً، عصفت بك السياسة كما عصفت بكثيرين من أبناء جيلك، فانحزت إلى الحركات اليسارية مناضلاً، وكان تعرّفي بك في تلك الأثناء، وأنت تجوب مناطق الشمال، تقيم الندوات وتنظم اللقاءات مع الشباب والطلاب، بهمة وعزيمة. وكان هدوؤك ووقارك سمتين بارزتين في شخصك وحضورك.
كنت مقنعاً، لأنك كنت مفكراً، وكنت تمتلك جاذبية المبدعين. لذلك، حين يدور الحوار وتطرح
“حين يدور الحوار وتطرح الأسئلة كان كلامك وازناً ورأيك بثمن”
الأسئلة كان كلامك وازناً ورأيك بثمن. جرّبت كل الوسائل التي تفضي إلى التكاتف، وتكثيف الجهود من أجل تجديد معنى الوطن، ومد المجتمع بالقدرة على استيعاب المعاني الكبيرة، وإغناء مضامينها من حرية وعدالة وتجدّد ونماء. ميّزك انتماؤك إلى طينة المثقفين، فكنت صديق الكتاب والشعراء والفنانين. ولذلك أيضاً كان انشغالك بالسياسة كالمنشغل بأحد الفنون الجميلة، لا مغرضاً ولا ساعياً إلى مكسب، بل محباً للأفكار الجديدة، تراها برّاقة نضرة، تلمع فوق المدينة المشتهاة.
كان لبنان، بموقعه تاريخاً وجغرافيا، أرضاً خصبة لاختبار الأفكار المتنوعة حول الانتماء والتعدّد والاختلاف والعيش معاً. فشغلك التعرف بالآخر، وأثرى رؤيتك، ونأى بك بعيداً عن طينة العنصريين والطائفيين واللاعبين بالمصائر. أنشأت سحرك الخاص من ذلك الانزياح الذي صنعته داخل انخراطك المجتمعي، ساعياً إلى مهر السياسة بالثقافة والثقافة بالسياسة. يا سمير: اعذرنا إن عدنا إلى سماع صوتك في غيابك، فحين تدار السياسة بعقول الصيارفة وأخلاق أسياد القبائل، لن تغادرنا بهذا اليسر، وسيبقى الشعور بخسارتك راهناً، وعميقاً، والعودة إليك فريضة حج.

وصيّة سمير فرنجية
خيرالله خيرالله/المستقبل/13 نيسان/17
لم يكن سمير فرنجية ذلك الاستثنائي المتقد ذكاء ومعرفة في شؤون لبنان والعالم العربي فحسب، كان أيضا وقبل كلّ شيء ذلك الانسان المرهف الحسّ الذي لم يفرّق يوما بين لبناني وآخر، بين مسلم ومسيحي وبين غنيّ وفقير. كان سمير فرنجية في كلّ وقت صادقا مع نفسه، خصوصا في احتقاره للاغبياء، رافضا في الوقت ذاته استغلال موقعه كابن عائلة نافذة في الشمال اللبناني من اجل منصب، ايّا يكن هذا المنصب.
على خلاف معظم الزعماء المسيحيين وغير المسيحيين في لبنان، لم يبع نفسه للشيطان، وما اكثر الشياطين الذين مرّوا على لبنان في حياة سمير فرنجية الذي انطفأ يوم الاثنين الماضي في بيروت في الحادي عشر من نيسان قبل يومين من ذكرى الثالث عشر من نيسان 1975 يوم اندلاع الحرب اللبنانية. كان بين القلائل الذين فهموا معنى تلك الحرب التي لعب المسلّحون الفلسطينيون، بدفع من النظام السوري، دورا محوريا فيها من جهة وخطورة قيام الميليشيات الطائفية والخطف على الهوية من جهة أخرى.
كلام كثير قيل في سمير فرنجية. قيل هذا الكلام في حياته وقيل بعد موته الذي لم يكن مفاجئا. لم ييأس سمير فرنجية يوما، على الرغم من معرفته العميقة في شؤون لبنان وما يدور حول لبنان. قرّر ان يستريح، هو الذي كان يستعيد بين فترة وأخرى حيويته من محبّة الأصدقاء وما اكثرهم، من ميشال حاجي جورجيو وساندرا نجيم… الى يوسف الزين ومحمّد مطر وكثيرين غيرهم.
في الإمكان الاتيان على ذكر عشرات الأصدقاء الذين عرفوا سمير فرنجية باكرا، مثل الكاتب والمؤرّخ الفذّ امين معلوف الذي بدأ حياته يساريا وانتهى رجلا واقعيا وشاهدا على انهيار الشرق ومدنه، وبيروت بالذات. لكنّ سمير فرنجية يظلّ في نظر الذين عرفوه منذ مطلع سبعينات القرن الماضي ذلك الانسان المثقّف القادر على التطوّر في استمرار والتعلّم من الحياة. هذه القدرة على التطوّر كانت محطّ اعجاب سمير فرنجية في شخص جورج نقّاش مؤسس جريدة «لوريان» التي عمل فيها في مطلع حياته الصحافية.
كان هناك اعجاب لدى سمير فرنجية بجورج نقّاش الذي كتب مقاله الشهير «سلبيتان لا تصنعان امّة» ناعيا فيه لبنان بمسلميه ومسيحييه الذين لم يتمكنوا من الاتفاق يوما على مفهوم للوطن الواحد. نشر المقال في العاشر من آذار 1949 وكلّف جورج نقّاش ثلاثة اشهر في السجن. لم يحل ذلك دون ان يصبح جورج نقّاش، لاحقا، وزيرا ثلاث مرات وان يكون سفيرا لبلده في باريس قبل ان يدمج «لوريان» بجريدة «لو جور» في العام 1971 في عملية تفتّقت عنها عبقرية غسان تويني.
من خلال جورج نقّاش، شاهد سمير فرنجية الانتقال من اليمين الى الاعتدال والوسطية اللذين كانت تمثلهما الشهابية (نسبة الى الرئيس فؤاد شهاب)، ذلك ان جورج نقّاش كان بين مؤسسي حزب «الكتائب» مع الشيخ بيار الجميّل في 1936، لكنهّ لم يمكث فيه سوى سنة واحدة. انتهى جورج نقّاش شهابيا يعتقد ان في الإمكان الرهان على لبنان من خلال بناء المؤسسات الوطنية والتعاطي مع كلّ اللبنانيين بلغة التنمية والمدارس والجامعات والقضاء على الفقر والحرمان، فضلا عن الاتيان بأفضل اللبنانيين الى المواقع الحساسة في الدولة.
بدأ سمير فرنجية حياته يساريا لينتقل مع الوقت الى الاعتدال والى مفهوم الحوار أساسا للتفاهم بين اللبنانين مع اخذ في الاعتبار للظروف الإقليمية، بما في ذلك الجنون الفلسطيني على الأرض اللبنانية الذي دفع اليه النظام السوري، مثلما دفع هذا النظام منذ البداية أحزابا وتنظيمات مسيحية، ثمّ إسلامية، الى إقامة ميليشيات خاصة بها.
كان هذا التوجّه الى الاعتدال والرهان على امكان إعادة الحياة الى لبنان من دون الاصطدام بالعامل الإقليمي وراء تلك الصداقة، بل هذا التواطؤ الذي جمع بين سمير فرنجية والرئيس رفيق الحريري. قليلون كانوا يعرفون عن سرّ تلك العلاقة التي كانت تربط بين الرجلين. قليلون جدا كانوا يدركون مدى تفهّم سمير فرنجية لما كان يقوم به رفيق الحريري، حتّى في الذهاب بعيدا في مسايرة النظام السوري ورجالاته في لبنان، من اجل التمكن من إعادة بناء بيروت والانطلاق منها الى إعادة اعمار لبنان.
سمحت التجارب التي مرّ بها سمير فرنجية للرجل بان يكون دائما في قلب الحدث، وذلك على الرغم من اتهامه بالنخبوية التي جعلته يرفض التزلّف لاحد. لم يكن قادرا على ذلك بسبب تكوين شخصيته. كان صديقا لوليد جنبلاط من دون ان يكون مضطرا لتأييده في كلّ ما يفعله، على سبيل المثال…
كان اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005 نقطة تحوّل لدى سمير فرنجية الذي سارع الى التقاط معنى تظاهرة الرابع عشر من آذار. زاد ايمانه بفكرة الرهان على لبنان من دون ان تغيب عنه التعقيدات التي عرقلت مشروع بناء دولة حديثة، في مقدّمها سلاح «حزب الله» الذي حل مكان السلاح الفلسطيني.
احتفظ سمير فرنجية بنقائه ونبله ولم يفقد يوما ايمانه بلبنان على الرغم من كلّ الخيبات. الأكيد ان ما ساعده في ذلك كانت مواقف البطريرك صفير الذي دفع الى مصالحة الجبل والى المطالبة بخروج القوّات السورية من لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي في ايّار 2000 ثمّ الى قيام لقاء قرنة شهوان الذي مهّد لما اسماه سمير قصير «استقلال 2005» بعد ارتكاب جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.
كان سمير فرنجية متصالحا دائما مع نفسه. لم يدخل في مساومات رخيصة، على الرغم من انّه كان دائما رجل حوار. لم يفه لبنان حقّه. هذا امر طبيعي في بلد لم يسمح لوالده حميد قبلان فرنجية بالوصول الى موقع رئيس الجمهورية في العام 1952، على الرغم من انّه كان اكثر المستحقين لذلك. هذا طبيعي في بلد بقي فيه نسيب لحّود «الرئيس الحلم»، نظرا الى انّه كان في استطاعته نقل البلد الى مكان آخر بعيدا عن المزايدات الرخيصة والمتاجرة بحقوق المسيحيين.
لم يكن سمير فرنجية بعيد النظر فحسب، بل كان مختلفا أيضا. صنع موقعا لنفسه من دون ان يضطرّ الى السقوط في لعبة الطائفية والدمّ. كان راقيا في كلّ ملاحظاته و«تنكيتة» له وقادرا على التقاط التفاصيل التي تعني له الكثير. تحمّل الكثير في حياته. تحمّل ظلم القريب وظلم كلّ الذين افتروا عليه… لكنّه لم يتحمّل يوما الاغبياء والتافهين والسطحيين الذين يؤلّه اللبنانيون، خصوصا المسيحيين منهم، بعضهم. بقي مؤمنا بانّ الاعتدال وحده يحمي لبنان ويحمي مسلميه ومسيحييه. تلك، كانت وصية رجل تعلّم من مدرسة ريمون اده ان هناك مبادئ لا يمكن التنازل عنها في أي وقت من الاوقات وفي أي ظرف من الظروف.