مداخلة د. فارس سعيد في مؤتمر الأزهر ومجلس حكماء المسلمين: الحرية والمواطَنة – التنوُّع والتكامل

56

مداخلة د. فارس سعيد في مؤتمر الأزهر ومجلس حكماء المسلمين: الحرية والمواطَنة – التنوُّع والتكامل

1 آذار 2017

أصحابَ المقاماتِ الجزيلةِ الاحترام، من رُعاةٍ وحكماءَ وعلماءَ ومفكرينَ ومثقَّفينَ وذوي كلمةٍ مسموعة في أوطاننا… أحيّيكم بتحيَّةِ السلام، تحيَّةِ المسيحيةِ والإسلام.

وإذ۫ يُشرّفني أن أكونَ بينكم في هذا المؤتمر الذي ينعقدُ بناءً على دعوةٍ كريمةٍ من رئيسِ مجلسِ حكماء المسلمين، سماحةِ شيخ الأزهر، فإني أحيّي هذه المبادرة التي ارى فيها ترسُّماً لنهجٍ أصيلٍ طالما عَهِدناه في هذا الصَّرحِ العِلميّ العريق… واسمحوا لي أن أخاطبَكم بصفتي مسيحياً مشرقياً وعربياً ولبنانياً في آنٍ معاً، أي بدوائرِ انتمائيَ الثلاثِ هذه التي تشكّلُ هويَّتي، والتي لا تَنفصِمُ عُراها…

أعتقد أنَّنا – في هذا المقام – لسنا بحاجةٍ إلى اختراعِ مفاهيمَ جديدة علينا، بمقدارِ ما نحنُ مدعوُّون إلى توكيدِ خياراتٍ وجوديةٍ ومصيرية، وإلى العملِ معاً لتكونَ هذه الخياراتُ واقعاً متجسِّداً في حياتنا لا مجرَّدَ صَرخةٍ في برّيّة.

أما التَّوكيد، فلأنَّ ثمَّةّ حَوَلاً يُصيبُ خياراتِ الكثيرين، من مسيحيين ومسلمين، لأسبابٍ شتَّى، من وظائفِ هذا المؤتمر أن يشخِّصَها تشخيصاً موضوعياً. وحسناً فعلتم أَن۫ أردتم هذا المؤتمر مشتركاً، توكيداً لسمةٍ اساسية في حضارتنا العربية، وهي أنها “حضارةُ الوجه” – بحسب التعبير الرائع للسادةِ بطاركةِ الشرق الكاثوليك – اي “حضارة التَّلاقي الودّي والتحاورِ الحقيقي والتخاطُبِ المباشر، التي يتطلَّعُ إليها المؤمنون من الديانتين في حضاراتٍ أخرى” (1) .

وأما ضرورةُ العملِ معاً، يداً بيد وعزيمةً إلى عزيمة وإيماناً إلى إيمان، فلأنَّ مُجمَلَ أنواعِ التطرُّفِ والغُلُوِّ والانحرافات متضامنةٌ فيما بينها اليوم، بتواطوءٍ موضوعيّ أو مباشر. وقد بلغ هذا التواطوءُ حداً بتنا لا نخشى معهُ القولَ بمؤامراتٍ تصنع التاريخ في حقبةٍ من الزمن!… ومن هنا نعتقدُ بقوَّة أن شعار “يا معتدلي العالم العربي – بل والعالم اجمع – اتَّحدوا” باتَ اليوم أكثرَ من ضرورة. كذلك كان لنا في “لقاء سيّدة الجبل” شرفُ المشاركة – مع جمعياتٍ أهليةٍ لبنانية وفلسطينية وعراقية وتونسية – في التحضيرِ لمؤتمرٍ عتيد حول “تضامن الاعتدال على ضفَّتي المتوسط”، بمبادرة من قِبَل معلِّمِنا في الحوار والاعتدال، الاستاذ سمير حميد فرنجية – أعانهُ اللهُ في محنته الصحيّة الحالية – وذلك بتفاهُمهِ مع فخامةِ رئيسِ الجمهورية الفرنسية اثناء زيارته الأخيرة للبنان.

كمسيحيٍّ مشرقيٍّ وعربي، أؤمنُ بتعاليم كنيستي. وقد جاء في نصوص المجمع البطريركي الماروني الأخير: “إنَّ كنيستنا تَعي وتُعلن، مع أخواتها الكنائس الشرقية الكاثوليكية، بأن المسيحيين في الشرق هم جزءٌ لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين، كما أن المسلمين في الشرق هم جزءٌ لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق، فنحنُ مسؤولون بعضُنا عن بعض أمام الله والتاريخ”(2)… وعليه أؤمن بأن حمايةَ المسيحيين في منطقتنا العربية ينبغي أن تكونَ من قِبَل بيئتهم الإنسانية الحاضنة لا من الخارج. وهذا الأمر يرتّب – كما تعلمون – واجباتٍ متبادلة.. وقد قرأتُ بعين الرضا ما جاء في رسالةِ الدعوة إلى هذا المؤتمر، من أن “الأزهرَ ومجلسَ حكماء المسلمين لَيَن۫ظرانِ إلى مشكلات العيش والتنوّعِ والاختلافِ الدينيِّ والثقافيّ بمنطقِ القيم وليس بمنطقِ القِلَّةِ والكثرة، ويعتبرانِ أنَّ هناك هواجسَ مشتركةً ومخاوفَ وتوجُّهاتٍ أظهرتها أحداثُ السنواتِ الماضية، وهي تستدعي التفهُّمَ والإضغاءَ والتشاورَ والمعالجةَ من مواقعِ الحرصِ والمسؤولية”. وهذا التنبُّه من جانبِ مرجعيةٍ إسلامية سامية يلتقي مع فهم كنيستنا لوضع المسيحيين في النطاق البطريركي، حتى قبلَ أحداثِ السنواتِ الأخيرة من “الربيع الدامي”، إذ أكَّدت “رفضنا النهائي لمفهوم الأقلية ووضعِ الذمَّة، والمجاهدةَ مع خيّري المسلمين في سبيلِ وعي التمايز، على غيرِ تعارُض، بينَ الروحيّ والزمنيّ، بينَ المقدَّسِ وغيرِ المقدَّس، بين الدينيّ والسياسي”.. وتتابع الكنيسة: “علينا أن نضعَ هذه المفاهيم موضعَ التطبيق، لا بالإستنادِ إلى أحكامِ الشَّرعِ السالف، مسيحياً كان أو إسلامياً، بل بما يتَّفقُ مع النواميس الدولية المعاصرة، كما تصوَّرتها الأُسرةُ البشريةُ جمعاء في القرن العشرين وأقرَّتها منظمةُ الأمم المتحدة منذ الإعلان العميم لحقوق الإنسان” (3)… وبموجبِ هذه المفاهيم ومنطقِ القيم لا القِلَّةِ والكثرة، يتسنّى لنا أن نعيشَ معاً في إطار الأخوَّةِ والمواطنة، كما يتسنَّى لنا الإجابةُ عن السؤالِ الذي باتَ يتحدَّى البشريةَ جمعاء: كيفَ نعيشُ معاً بسلام، متساوينَ ومختلفين؟

وكمسيحيٍّ لبناني، أنا مُل۫زَمٌ بالشهادةِ لإيماني في بيئتي الوطنية. وقد علَّمني الإنجيلُ أنَّ الشهادةَ للإيمان تكونُ أحسنَ ما تكون في إطارِ العيشِ مع الآخرِ المختلف وليس بمعزلٍ عنه. ومن هنا فإن اختيارَنا وطنَ العيش المشترك، النهائيَّ لجميعِ أبنائه، هو فِعلُ إيمانٍ قبلَ أن يكون تسويةً في ظروفٍ معيّنة. ومن هنا أيضاً فإنَّ تغيُّرَ الظروفِ والموازينِ العابرة لا يحمِلنا على التخلّي، وإنما يدعونا إلى المجاهدة، ودائماً بالشراكةِ مع إخوتنا المسلمين. وقد بيّنت انتفاضةُ الاستقلالِ اللبناني في آذار 2005 ما لهذه الشراكة من دورٍ حاسم في رفع الوصاية الخارجية عن دولةِ العيش المشترك.. وهذا بطبيعةِ الحال فضلاً عن أمثولةِ الاستقلالِ الأول عام 1943.

إنّ مسيحيي لبنان – بحسب اعتقادي والمرتجى – لا يطلبونَ حمايةً لأنفسهم، وإنما يطلبونَ من إخوتهم العربِ أولاً ومن المجتمع الدولي ثانياً مساعدتَهم على حمايةِ نموذج العيش المشترك.. هذا النموذج الذي جعل من لبنان – بحسب عبارة المجمع البطريركي الماروني – “الإبن البكر للتَّلاقي المنشود بين المسيحيةِ والإسلام في الشرق، بل وفي العالم. وهذا ما دفع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المجاهرة بشهادته الرائعة: إن لبنان هو أكثرُ من وطن.. إنه رسالةُ حريةٍ ونموذجُ تعدُّديةٍ للشرق كما للغرب” (4).

(1) نصوص المجمع البطريركي الماروني 2006، ص 94.
(2)    نصوص 2006، ص71. ورسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الأولى، آب 1991.
(3)    نصوص، ص 94-95.
(4)    نصوص، ص 81. ورسالة البابا يوحنا بولس الثاني حول الوضع في لبنان، ايلول 1989، عدد6