محمود الزيباوي/المدن: مومياوات مارونية

124

مومياوات مارونية

محمود الزيباوي/المدن/12 شباط/17

مومياء مارونية تعود إلى أنصار لوقا البنهراني

كما في كل عام، احتفلت الدولة اللبنانية بعيد القديس مارون في التاسع من شهر شباط-فبراير، وعاد الحديث عن نشوء الموارنة ومسيرتهم التاريخية في هذه المناسبة. يلفّ هذا التاريخ في الواقع الكثير من الغموض، وشواهده الأثرية قليلة، منها ثلاث مومياوات ومجموعة من الملابس والأدعية يعرضها المتحف الوطني اللبناني في الطابق السفلي الذي افتتح في نهاية العام الفائت.

بحسب التعريف المتبع في المتحف، اكتُشفت هذه المومياوات العام 1989 في وادي قاديشا المدرج على قائمة منظمة يونيسكو للتراث العالمي، وهو الوادي الذي يُعرف محلياَ بـ”الوادي المقدّس”. بحسب الروايات المتناقلة، لجأ الموارنة إلى هذا الوادي في الماضي هرباً من اضطهاد الروم البيزنطيين ومن ثم المماليك المسلمين، وبات قلعتهم الحصينة. بين العامين 1988 و1993، عثر أعضاء من “الجمعيَّة اللبنانيَّة للأبحاث الجوفيَّة” على مجموعةٍ من الأجساد البشريَّةٍ المحنَّطة طبيعيّاً مع العديد من قطع الثياب والحلي في مغارة من مغارات وادي قاديشا تقع في منطقة حَدَث الجِبَّة، وتمّ إيداع المكتشفات في مديرية الآثار العام 1995، وعُرض بعض هذه المكتشفات في ركن من الطابق السفلي الذي خصّص للفنون الجنائزية في لبنان.

بدأت “الجمعيَّة اللبنانيَّة للأبحاث الجوفيَّة” رحلة استكشاف منطقة حدث الجبة انطلاقا من رواية نقلها في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، البطريرك اسطفان الدويهي، “علّامة عصره، وأب التاريخ الماروني وحافظه” كما يُقال اليوم. جاءت هذه الرواية في تعليق غير موقّع اكتشفه البطريرك العلاّمة ونقله في كتابه “تاريخ الأزمنة”، ونصّه الحرفي: “في شهر أيار (العام 1283)، سارت العساكر الإسلامية إلى فتح جبة بشري فصعد شرقي طرابلوس العسكر في وادي حيرونا وحاصر إهدن حصاراً شديداً، وفي نهار الأربعين ملكها بشهر حزيران، فنهبوا وقتلوا وسبوا ودكوا للأرض القلعة التي بوسط القرية والحصن الذي على رأس الجبل، ثم انتقلوا إلى بقوفا وفتحوها في شهر تموز، وقبضوا على أكابرها وأحرقوهم بالبيوت ونهبوا وسبوا ودكوها إلى الأرض، وبعدما ضربوا بالسيف أهالي حصرون وكفرسالون في الكنيسة، توجهوا في الاثنين وعشرين من شهر آب إلى الحدث، فهربوا أهلها إلى العاصي، وهي مغارة منيعة فيها صهريج للماء، فقتلوا الذين لحقوهم وخربوا الحدث، وبنوا برجاً قبال المغارة، وابقوا فيه عسكر يكمن عليهم، ثم هدموا جميع الأماكن العاصية. واذ لم يقدروا يفتحوا قلعة حوقا التي قبال الحدث، أشار عليهم ابن الصبحا من كفرسغاب بجر النبع الذي فوق بشري وتركيبه عليها، فملكوها بقوة الماء لأنها داخل الشير، واذنوا لابن الصبحا بلبس عمامة بيضه يانس وان تقيم العبيد بخدمته. ولما رجع العسكر وتاب عن سوء فعله عمر دير سيدة حوقا لسكنة الرهبان، وهو بالقرب من برج الذي كان في الشير”.

بحسب هذه الرواية، شن المماليك في العام 1283 حملة على جبة بشري في شمال لبنان، وحاصروا إهدن، ثم توجّهوا إلى الحدث، فلجأ أهلها إلى “مغارة منيعة فيها صهريج للماء”، فقطعوا عنها الماء. تأتي هذه الأحداث في زمن نهاية حكم الفرنجة وانهيار “كونتية طرابلس”، وهي المقاطعة التي أنشأها الصليبيون في مطلع القرن الثاني عشر، وكانت تمتد من المنطقة التي تُعرف اليوم بجسر المعاملتين قرب جونية، إلى مدينة طرطوس، على الساحل السوري، وتضمّ جبل لبنان “التاريخي”، أي جبة بشري، وبلاد جبيل والبترون، وجبة المنيطرة. بحسب مؤرخ الفرنجة، وليم، رئيس أساقفة صور ومستشار الملك بدوين الرابع ملك “مملكة أورشليم”، جرى أول اتصال للموارنة مع الصليبيين في العام 1099، واتحدوا بكنيسة روما في العام 1182. “لم يكن هؤلاء الناس قليلي العدد”، يقول مؤرّخ الفرنجة، “وقدّروا بأنّهم أكثر من أربعين ألف، وكانوا شعبًا قوي البنية ومقاتلين شجعان، وقدّموا فوائد عظيمة للمسيحيين في المعارك الصعبة التي كانوا قد خاضوها مرارًا مع العدو”، فمنحوهم “جميع الحقوق الكنسية والمدنية التي كانت لأبناء الكنيسة الرومانية الكاثوليكية”. لكن هذا الإتحاد لم يكن ثابتاً، إذ تعرّض لأكثر من انشقاق كما يقول المؤرّخون الذي عاصروا هذه الحقبة الشائكة.

في العام 1268 شنّ السلطان بيبرس حملة عسكرية على جبّة بشري، وتلا هذه الحملة تساقط المناطق التابعة لكونتية طرابلس الواحدة بعد الأخرى. بعدها عقد السلطان قلاوون في العام 1281، معاهدة صلح لمدة عشر سنوات مع صاحب طرابلس بوهيموند السابع، وشملت هذه المعاهدة جميع أراضي الكونتية. في ظلّ هذه الهدنة، شنّ المماليك العام 1283 حملة أخرى على منطقة جبة بشري وشرّد أهلها، وهي الحملة التي أشار إليها إسطفان الدويهي “تاريخ الأزمنة”، وتقابلها رواية “إسلامية” نقلها محي الدين بن عبد الظاهر في كتابه “تشريف الأيّام والعصور بسيرة الملك المنصور”. تقول هذه الرواية المملوكية: “إتّفق أنّ في بلاد طرابلس بطركًا عتا وتجبّر واستطال وتكبّر وأخاف صاحب طرابلس وجميع الفرنجة، واستمرّ أمره حتى خافه كل مجاور. وتحصّن في الحدث وشمخ بأنفه، وما قدر أحد على التحيّل عليه من بين يديه ولا من خلفه. ولولا خوفه من سطوة مولانا السلطان لخرب تلك البلاد، وفعل ذلك أو كاد. فاتفق أن النواب ترصّدوه مراراً فما وجدوه. فقصده التركمان في مكانه وتحيّلوا عليه حتى أمسكوه وأحضروه أسيرا وحسيرا. وكان من دعاة الكفر وطواغيهم، واستراح المسلمون منه وآمنوا شره. وكان إمساكه فتوحًا عظيمًا، أعظم من افتتاح حصن أو قلعة، وكفى الله مكره”.

يتحدّث مؤرّخ المماليك عن “بطرك الحدث من بلاد طرابلس”، ولا يذكر اسمه. في المقابل، يتحدّث إسطفان الدويهي عن لوقا من بنهران الذي “تغلّب على البطريريكية”، ويضيف معلّقاً: “لا عجب أن في الملة المارونية يكون برز منها بعض خوارج حرّكوا الاضطهاد على أولادها”. راجع المؤرخ كمال الصليبي هذه الأحداث بدقّة، وقارن بينها، وخلص إلى نتيجة تقول أن الموارنة انقسموا في هذه الحقبة، فمنهم من بقي على ولائه لكنيسة روما، ومنهم من رفض هذا الولاء. كان أهالي جبة المنيطرة من أنصار الفريق الثاني، فاضطر البطاركة إلى هجرة مركزهم في دير سيدة يانوح، وبات للطائفة بطريرك مناصر لروما مركزه في حالات، وهو أرميا الدلمصاوي، وبطريرك آخر مناوئ لهذه الوحدة مركزه في الحدث، وهو لوقا البنهراني، أي “لوقا من بنهران” الذي “تغلّب على البطريركية” في رواية إسطفان دويهي، و”بطرك الحدث الذي “عتا وتجبّر واستطال وتكبّر وأخاف صاحب طرابلس وجميع الفرنجية” في رواية محي الدين بن عبد الظاهر. هكذا واجه هذا البطرك الذي خرج عن الملّة وحرّك “لاضطهاد على أولادها” الفرنجة والمماليك، وانتهى “أسيرا وحسيرا” على يد المماليك بوشاية من ماروني يٌدعى “ابن الصبحا من كفرسغاب”.

يعرض المتحف الماروني ثلاث مومياوات تعود إلى بعض من أنصار لوقا البنهراني، وهم من أهالي الحدث الذين لجأوا إلى هذه المغارة وقضوا فيها خلال الحصار الذي ضربه المماليك عليها كما يبدو. إلى جانب هذه المومياوات، تحضر مجموعة من الألبسة المطرّزة بشكل فني رفيع، وعدد من الحجب والأدعية السريانية التي تؤكّد هوية اللاجئين الذي قضوا في هذه المغارة، إضافة إلى بضعة أوراق مخطوطة بالعربيَّة تعود إلى الحقبة المملوكية، وتشكّل هذه المكتشفات شواهد تؤكّد الرواية التي نقلها المؤرّخون في حولياتهم أيام المماليك.