أنطوان العويط: عن مار مارون والوطن الضائع وسط المعمعة الإنتخابية

57

 عن مار مارون والوطن الضائع وسط المعمعة الإنتخابية
أنطوان العويط/صحيفة الجمهورية/09 شباط/17

 فيما يستعدّ الموارنة للاحتفال بعيد شفيعهم، سيَشغل رئيس الجمهورية كرسيَّه في القدّاس الذي سيقام في كنيسة مار مارون في بيروت بعد شغورٍ لأكثر من سنتين. كما تشكّلت حكومة «استعادة الثقة»، فكان من الطبيعي أن تعود إلى المؤسّسات الوطنيّة روحيّة العمل بنفحةٍ متجدّدة من الآمال.

وبعد عملية شحنٍ للبلاد بالإيجابيات على شتّى الصعد لأسباب بديهيّة تتعلق بالوضعيّة العامة المتأزّمة وبالقدر المقلق الذي باتت عليه، ها هي الأمور تكاد تعود فجأةً إلى نقطة الصفر مع مقاربة القانون الانتخابيّ والاستحقاق المرتبط به المجهول المصير.

شكّل لبنان عبر تاريخه الطويل ملجأً لأقلّيات متنوّعة هربت من الاضطهاد، تحوّلت فيما بعد إلى جماعات تعايشت بعضها مع بعض كما تناحرت. وهي تقف اليوم عاجزةً عن الانتقال إلى مرحلة المواطنة المحتضنة للتعدّدية بعدما فشلت في تقديس الأرض التي منحتها الأمان، وعندما أمعَنت في التفريط بالقيم المشتركة المكوّنة للعقد الاجتماعيّ في وطن نهائيّ.

عملت عصا الحكّام كما المستعمرين والمحتلّين وأصحاب المصالح الإقليميّة والدوليّة في رقاب هذه الجماعات، فأجهدوها ونجحوا في إثارة الفتن في صفوفها. ولهذا يشهد اللبنانيون اليوم تداعيات تاريخ طويل من التحدّيات والخيبات، وأيضاً يفشلون في تسيير أبسط متطلّباتهم، وفي إدارة شؤونهم الوطنية العامة، كما في تحييد ذواتهم الخاصة ضمن التنوّع والتعدد إزاء الصراعات الإقليميّة القائمة.

سعى الموارنة وراء الاستقلال الذاتيّ باكراً وعايشوه في بعض من مراحل تاريخهم، مئات السنين قبل أن يواجه البطريرك الياس الحويك جمال باشا الجزّار ويحدّ من عنجهية القنصل الفرنسي، لينجح لاحقاً منتدباً من جميع شعوب لبنان إلى مؤتمر فرساي سنة 1919، في تأسيس دولة لبنان الكبير وتحقيق حلم الاستقلال.

وكان أن أقام الموارنة أميراً عليهم بعدما توحّدوا تحت عباءة بطريركهم، فشكّل حكمهم الذاتيّ هذا نوعاً من الاستقلال، على ما يظهره تاريخ هذه الطائفة في السنوات 1179، و1250، و1742. فقد وقفوا في وجه أهل الشرق من المسلمين والمسيحيين على السواء، وفي وجه الصليبيين أيضاً واليسوعيين والغرب عموماً، وهذا يعود إلى نزعتهم القويّة إلى الحرّية وإلى الانفتاح وإلى الاستقلال.

قبل العام 1943، عاد الأمير فخر الدين إلى البطريركين مخلوف وعميرة لمعاونته على نيلِ الاستقلال، وعبر الكرسيّ الرسوليّ مهّدا له عقد المعاهدات مع توسكانا وبعض الدول الأوروبيّة. أمّا البطريرك يوسف حبيش فواجه مظالم المصريين، ورفضَ بقوة نظام القائمقاميتين لصالح إبقاء جبل لبنان موحّداً.

أمّا ما انعكس سلباً على مشروع الدولة اللبنانية الوليدة بعد الحرب العالميّة الثانية، فكان قيام دولة إسرائيل بقوّة الاغتصاب على أرض فلسطين وتدفّق اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان. وكان أن تضافرَت عوامل اجتماعية-اقتصادية -سياسية محليّة فشلت الجماعات اللبنانيّة في التوافق حولها، فاندلعت الحرب.

وإذا كانت تلك الحوادث قد أدّت إلى دخول الجيش السوري لبنان في كانون الثاني من العام 1976 تحت شعار منع التقسيم بالقوّة، وبحجّة إبعاد يد الوجود الفلسطينيّ عن القرار اللبنانيّ، وبذريعة وقفِ الاقتتال بين اللبنانيين، إلّا أنّ الجمهورية استمرّت في الاحتراق. وبدل أن يساهم وجود الجيش السوري في إشاعة الطمأنينة والوفاق بين اللبنانيين، أدّى إلى تفاقم الصراع، فتحوّل إلى قوّة احتلال في رأي الكثيرين من اللبنانيين… فضاع الاستقلال.

المؤلم أنّ أثر الدنيوي ومكانته في نفوس الجماعات اللبنانيّة لم يتغيّر بعد انتهاء الوصاية السوريّة، فركبَ الغرور السياسة، وطمعت في الانقلاب على كلّ القيَم والمواثيق والعهود التاريخيّة، أو رغبَت في امتطائها والالتفاف عليها وتشويه معانيها، فانهار البناء. فماذا عن الجمهورية اليوم، وماذا عن الوطن؟!

لقد مضى على البحث في القانون الانتخابي ردحاً طويلاً من الزمن والخرقُ فيه بات مطلوباً وملِحّاً، لأنّ الإحباط هذه المرّة قد يطيح بما تبقّى من أسس واهية ومتصدّعة لجمهوريتنا السعيدة.

فهل ما ينبئ في جوهر الأمور القائمة أنّنا متّجهون ناحية مسار مختلف عمّا وصلت إليه أحوال الجمهوريّة والوطن؟

لقد فشلت الحكومات السابقة في هذا المجال كما المجلس النيابي الممدّد لذاته. فما الممكن اليوم أن يتغيّر؟ وهل من أمل في معظم الطبقة السياسية القابضة على الحكومة وعلى المجلس النيابي القائم بحكم الأمر الواقع، أن ينتجا قانوناً عصرياً، عادلاً وحسَن التمثيل، بشكل يجدّد في هويّة وكفاءة ومصداقيّة وأهليّة من سيحمل وكالة صالحة من الشعب؟

السؤال الأدهى: ما دور الموارنة في كلّ ما يجري؟ وهل من مصلحة للجمهورية والوطن في فقدان القوى المسيحيّة قاطبة فرصة تقدمّها نحو إعادة تصويب الخلل في المشاركة في السلطة؟ وهل ممكن لهذه الفرصة أن تأخذ مسارَها والبعض يشكّك أنّها تكاد تقترن بصورة مستعادة لدور استئثاري استقوائي عانت منه طويلاً وكانت ضحيته؟

الواقع أنّ الضعف البشريّ يعمل في معظمهم. وإذ يتقارب بعضُهم من بعض، تبثّ الفرقة في مجموعهم ليعودوا يتفرّقون جماعات وشيعاً. وها هي شياطين الثروات والكراسي والمناصب والأمجاد تغويهم.

دورهم وهم يتهيّأون للاحتفال بعيد شفيعهم أن يثوروا على ذواتهم، وعلى كراسيهم، وعلى مؤسّساتهم، وعلى واقعِهم الديني، والسياسي، والمجتمعيّ، وأن يعلنوا العودة إلى الينابيع، إلى وادي القدّيسين، ليستعيدوا كرامة قدّيسهم مارون، المتروك وحيداً في عتمة العالم البرّانية، ويستعيدوا لبنان.

على الموارنة أن يعلنوا العودة إلى الينابيع، إلى قنوبين، ليتطهّروا من أخطائهم وخطاياهم في شؤون الدين والدنيا

لم تتمكن السلطات القائمة العام 1975 من تقديم الحلول الاجتماعيّة والسياسيّة الداخليّة ولا النأي عن الصراعات الإقليميّة، فوقعت البلاد في فخ الأزمة المستشرية. وكان أن انقسمت الجماعات اللبنانيّة حول سبل إصلاح النظام السياسي بين معارضين لأيّ تعديل للدستور يرمي إلى إضعاف صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، وبين آخرين أكثر تجاوباً مع طروحات التغيير والتأقلم مع معطيات الواقع. وقفت بكركي بصلابة في وجه تنكّر الجماعات اللبنانيّة لفكرة كيانيّة مشرقة احتضنَت يوماً هذه الأرض كلّها، وجعلت سماءها سقفاً للحضور المادّي والمعنوي للمسيحيين المشرقيين. رأت في «اتفاق الطائف» مدخلاً إلى تثبيت رسالة الشعب الذي حقّق التلاقي بين إرث الديانات السماوية، وبين قيم التجديد والانفتاح والحداثة. فماذا حدث؟ الواقع أنّ «صلاحيّات رئيس الجمهوريّة الدستوريّة كانت واسعة، لكنها في مجال الممارسة، لم تكن كذلك. وكان الأنسب للقيادات المارونيّة تكريس هذا الواقع في نصوص دستوريّة، تأكيداً لمبدأ مشاركة المسلمين المتوازنة في السلطة؛ وهذا ما فعلوه في «اتفاق الطائف»، إنّما بتأخير خمس عشرة سنة»، على ما جاء في المجمع البطريركيّ المارونيّ.

شجّع البطريرك نصرالله صفير المسارات الآيلة إلى إيجاد الحلول لإنهاء الحرب، فقد هاله ومجلس المطارنة ما وصلت إليه هجرة المسيحيين ونزاعات القادة الموارنة ودوامة العنف التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى باتت تهدّد المصير الوطنيّ برمّته. ولا يخفى على أحد مساهمة الكنيسة المارونية في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها «اتفاق الطائف». فهي نظرت إليه على أنّه «مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين مَن كان يطالب، بإسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين مَن كان يسعى، بإسم الحريّة، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته»، على ما جاء أيضاً في المجمع البطريركيّ المارونيّ.

قلّص «اتفاق الطائف» صلاحيات الرئيس الماروني في الوقت الذي لم يلقَ التنفيذ الفعلي من جوانبه كافة. فقد تمكّنت سلطة الوصاية السوريّة من تحوير مضمونه فضربت العقد الاجتماعي في الصميم… ووضعت خطّة استهداف مبرمَجة اتّخذت أشكالاً متنوّعة: استهداف أمنيّ طاول عدداً من التنظيمات والشخصيّات السياسيّة والشباب المسيحيّ في لبنان والخارج، واستهداف ديموغرافيّ تمثّل بإقرار مرسوم التجنيس، عام 1994، الذي منح الجنسيّة دفعة واحدة لما يزيد على 300 ألف شخص، معظمهم من غير المسيحيّين ومن غير مستحقّيها ومن حاملي جنسيّات أخرى، واستهداف إعلاميّ بغية تخوين جماعيّ للمسيحيين وتشويه صورتهم والنيل من دورهم الرائد في لبنان، واستهداف سياسيّ عبر اعتماد قوانين انتخاب لا تراعي التمثيل الصحيح.

اليوم، تغرق الجماعات اللبنانيّة في الجدل القائم حول ماهيّة القانون الانتخابيّ الأفضل، الذي يكرّس المناصفة ويؤمّن صحّة التمثيل وعدالته ويحمي الشراكة وميثاقيّة الدستور.

وفي وقت يتطلّعون فيه إلى استعادة تجارب الخبراء المنزّهة، يجدون أنّ القوى السياسيّة هي مَن تتولّى بنفسها في اللحظات الحرجة الأخيرة المتبقّية لها محاولة إنتاج مولود جديد، لا يعرف ما إذا سيكون مسخاً هجيناً لو حصل، أو سيكون قادراً على خلق مشهد سياسيّ متجدّد تتمثّل فيه الطاقات الحيّة من خيرة نساء ورجال الوطن. أما ما هو فعلاً غريب وعجيب، فيتجلّى في ذلك الخلط المستجدّ تلميحاً حتى الآن، في سياق الحديث غير المبرّر عن عودة إلى استعمال صلاحيات لرئيس الجمهوريّة لم ينصّ عليها دستور الجمهوريّة الأولى وغير منصوص عليها بطبيعة الحال في وثيقة الوفاق الوطنيّ، أو حوّلت معها إلى مجلس الوزراء؟!

الأدهى، هو رفض مسبَق لأيّ محصّلة انتخابية مفترضة مهما كانت هويّة القانون، في حال اقترنت بتحالفات سياسيّة قد تشكّل أكثرية موصوفة في الندوة البرلمانية؟!

الأنكى في المقابل، هو اقتران محاولة تكريس صحّة التمثيل وعدالته في القانون الذي يعمل عليه وفق مقاربة إعلان نتائج الانتخابات مسبقاً من دون حاجة إلى اجرائها، وتحت وطأة التشريع الساخن من جهة، ومع مفردات الفراغ والشلل والتهديد بالشارع من جهة أخرى؟!

الواقع أنّ الجماعات اللبنانية وصلت إلى حالة من التردّي والانحدار بسبب سقوط روحيّ وقيميّ وأخلاقيّ ووجدانيّ ووطنيّ مريع، ونتيجة لعمل أيدي الوصايات والتبعيّة ولحظات الانتهاز والتلوّن. ولهذا يتخبّطون الآن في ظلمة دامسة، وفي منزلقات خطيرة.

الموارنة اليوم هم في صميم الألم المسيحي الكبير، ألم الجلجلة… إنهم ربّما يواجهون التحدّي الأشدّ خطورة في تاريخهم كشعب، وفي تاريخ الجماعات المسيحيّة المشرقيّة على السواء. إنه تحدّي الوجود. واليقين هو أنّ الأمور لن تصطلح إلّا حين يسترجعون المبادرة عبر تحويل السياسة إلى فنّ شريف في خدمة الإنسان والخير العام. وفيما يستعدّ الموارنة للاحتفال بعيد شفيعهم، لن يكون هناك كلام أفعل في التدليل على سبل الخروج من الأزمة الراهنة، من العودة إلى المصلحة الوطنية العليا على أسس الميثاق والدستور. لبنان، إما تنجزه الجماعات اللبنانيّة معاً أو لا يكون. ولا شيء يوقف إكمال هذا التيه الدنيوي فعله في النفوس، إلّا روح قنوبين. على الموارنة أن يعلنوا العودة إلى الينابيع، إلى قنوبين، ليتطهّروا من أخطائهم وخطاياهم في شؤون الدين والدنيا. عليهم أن يستعيدوا خطى مارون، ليهتدوا بها، ويقتفوا أثر تلامذته ورسله وشهوده وشهدائه. عليهم بقدّيسهم مارون، لا لينكفئوا، بل ليكونوا له شهوداً ورسلاً في لبنان، وفي الشرق، وفي العالم.

إنّ الميثاق الأوّل والأساسيّ للجماعات اللبنانيّة تمثّل في عيش القيم والمبادئ التي طبعت جبل لبنان التاريخيّ وإنسانه، وانتقلت من الجبل إلى المدن والمناطق الساحليّة، وهو شأنٌ سابق للدول وللسياسة بمفهومها الحديث.

هكذا تطبّع الموارنة الذين يحتفلون اليوم بعيد شفيعهم مارون، ومعهم أقرانهم من اللبنانيين، مستلهمين خطى أسلافهم الذين ثبتوا في وجه التحدّيات، وعرفوا كيف يخرجون منها راسخين في إيمانهم، أشدّاء في الدفاع عن معتقداتهم وخصوصيّاتهم، واثقين من مستقبلهم.

إنّ الانتقال من حالة التفكّك والتقاتل، هو بمثابة انتقال من الموت إلى الحياة، وهذا ما يتطلّع إليه الموارنة اليوم في دولة مدنيّة تحترم الأديان عقيدة وممارسة.

إنّ ما يريده الموارنة بات واضحاً وصريحاً. هم ينشدون في ممارسة المسيحيين واللبنانيين للشأن العام، التحلّي بروح الخدمة المتجرّدة والسخيّة والمقرونة بالمناقبيّة وبالكفاءة وبالفعالية. وهم يتطلعون إلى مَن يحملون ميزة الشهادة للقيم الإنسانيّة، ولا سيّما منها بساطة العيش والحبّ التفضيليّ للفقراء وروح الغيرة والتضحية، ومَن يعتمدون التضامن كنهج ووسيلة، ومَن يلتزمون قضية السلام القائم على احترام حقوق الإنسان.

يحزّ هنا في قلوب الموارنة أنّ المصالحة والغفران لم يكتملا على كلّ المستويات: الروحيّة مع الذات، ومع الله، ومع الآخر، ومع الوطن. إنّ المصالحة والغفران لا يزالان غير كاملين على الصعيدين المسيحيّ والوطنيّ.

وما يريده الموارنة في بعض ما يعتري الشأن الزمنيّ من شؤون وطنيّة، يتلخّص في اعتماد آليات تحول دون تعطيل المؤسّسات الدستوريّة، والابتعاد من سياسة المحاور الإقليميّة والدوليّة، وتنفيذ ما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني من خلال تحقيق اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة، في سبيل تأمين فرصة جدّية لبناء الوحدة الوطنيّة وتأمين الاستقرار عبر تخفيف حدّة الصراع على السلطة المركزيّة، وتعزيز الإنماء المتوازن.

ما يريده الموارنة هو عدم تكبيل المؤسّسات الدستوريّة ورهنها بخيارات الأفرقاء الذين يدّعي كلٌّ منهم أنّ خياراته هي المنجّية.

فليس من المنطق بمكان أن يتغنّى اللبنانيّون بأنّ لديهم ديموقراطيّة ودستوراً ومؤسّسات، وهم في معظمهم يناقضون الديموقراطيّة لصالح الاستقواء أو الإلغاء، ويعلّقون الدستور رهناً بحسابات ذاتيّة أو فئويّة، ويعطلّون المؤسّسات باستغلالها كلّ على هواه.

وقد طغى على الحياة السياسيّة عندنا استغلال مبرح للديموقراطيّة التوافقيّة، ما أدّى إلى عجز اللبنانيين عن إيجاد الحلول داخلياً، وحاجتهم الدائمة إلى ناظم خارجي يبدع لهم التسويات.

ما يريده الموارنة هو الالتزام الجدّي ببناء الدولة العادلة والقادرة والمنتجة من خلال حفظ السيادة، وحصرّية القوّة العسكريّة في يد الشرعيّة، ومن خلال حماية استقلاليّة القضاء وحرمته، ودعم هيئات الرقابة وتفعيلها، وفرض سلطة القانون على الجميع من دون أيّ استثناء أو تمييز؛ والقضاء على المحسوبيات والفساد، ومن خلال تعزيز الاقتصاد وإيجاد فرص عمل للمواطنين.

ما يريده الموارنة هو احترام أحكام الدستور كافة بلا انتقائية، والتزام سياسة خارجيّة مستقلّة ونسج علاقات تعاون وصداقة مع كلّ الدول ولا سيما العربية منها، واحترام قرارات الشرعيّة الدوليّة والتزام مواثيق الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، والتأكيد على التمسّك بالمبادئ الكيانيّة المؤسّسة للوطن اللبناني.

ما يريده الموارنة هو انفتاح لبنان على قوّة أبنائه في الانتشار، كامتداد فعلي لثروة لبنان الإنسانيّة والحضاريّة، وشدّ الروابط الوطنيّة معهم في كلّ ما يؤول لصالح حقوقهم المدنيّة والسياسيّة وخيرهم وكرامتهم.

ما يريده الموارنة هو الاهتمام بالشباب الذين هم ثروة البلاد الكبرى والقوة التجديديّة في المجتمع، وتعزيز مساهمة المرأة في المسؤوليات العامة ومشاركتها في الحياة السياسيّة.

وما يريده الموارنة هو إسهام لبنان في عمليّة خروج العالم العربيّ من مخاضه الراهن، بحثاً عن أنظمة سياسيّة معاصرة تليق بإنسانه وبعراقة تراثاته، وتقوّي حضوره الإيجابيّ في عالم اليوم. فلبنان، بحكم أصالة هويّته وفرادة تراثه، قادر على أن يكون شريكاً في صنع الحضارة الإنسانية، وتدعيم الاستقرار والسلام العادل والشامل في المنطقة… مع الإصرار على حلّ أزمة النزوح السوري وعودة آمنة للمشرّدين إلى بلادهم…

والتأكيد على أحقّية القضيّة الفلسطينية، وبالتالي حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم، وفي إنشاء دولة خاصة بهم على ترابهم الوطني، وبالتالي رفض لبنان أيّ شكل من أشكال التوطين الفلسطيني على أراضيه، وفقاً لما جاء في مقدمة دستوره.

ما يريده الموارنة هو قانون انتخابيّ نيابيّ جديد، يترجم المشاركة الفاعلة في تأمين المناصفة الفعليّة، والاختيار الحر، والمساءلة والمحاسبة، ويؤمّن التنافس الديموقراطي، وفرص تمثل قوى ثالثة تطلع من حالة لبنانيّة، مجتمعيّة وثقافيّة وأخلاقيّة، عامة، ووطنيّة، وصاحبة برنامج عمل مشترك مدنيّ وديموقراطيّ.

وقد دعت الكنيسة المارونيّة «المجتمع المدنيّ إلى رفض المصير القاتم القائم أمامنا وإلى تظهير طبقة جديدة في المجالات كافة لا سيما السياسيّة منها».

ويتطلّع الموارنة إلى استكمال تطبيق «اتفاق الطائف»، والنظر في ما يجب إيضاحه أو تفسيره أو تطويره في ضوء التجربة القائمة، لسدّ الثغر الدستوريّة والإجرائيّة في ممارسة الحكم.

إنّ ما يريده الموارنة ختاماً هو وطن يليق باللبنانيين وتاريخهم وقيمهم، يجسّد بالفعل تلك التجربة الإنسانيّة الفريدة. وهذه مسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق الجماعات اللبنانيّة، وعلى عاتق الموارنة خصوصاً.

إنّ عودة الموارنة إلى أصالتهم هي المدخل إلى عودة الآخرين إلى أصالتهم أيضاً. وفي وحدة الموارنة باب أمل حقيقيّ لحوار حقيقيّ مع الآخرين، ليصبح التفاهم على خدمة لبنان أمراً ممكناً. وهذه هي رسالة لبنان في إشاعة الاستقرار والعدالة والسلام.

وهي رسالته في ذاته، ولذاته، قبل أن تكون رسالته إلى الشرق والغرب معاً، بل إلى العالم أجمع، حيث يتحقّق التلاقي بين إرث الديانات السماوية وبين قيم التجديد والانفتاح والحداثة، وحيث لا مفرّ من أن يصبح لبنان ملتقىً دولياً للأمم المتحدة للحوار بين الثقافات وللتفاعل الحضاريّ بين الجماعات.