مجلة ناشونال جيوغرافيك/مَنْ هم الفينيقيون؟

1573

باحثان أميركيان يميطان اللثام عن العلاقة الوراثية مع اللبنانيين

مفاتيح جديدة لحل لغز قديم: مَنْ هم الفينيقيون؟

ترجمة  تالا صباغ ياغي – النهار 6/3/2005

يومياً، وقبل بزوغ الفجر، يبحر صيادو السمك في مدينة صور كعادة أجدادهم القدامى في حقبات يمكن الذاكرة رصدها، ويعودون حوالى التاسعة صباحاً، حيث يسترخون بارتشاف القهوة ولعب الورق في مقهى على الشاطىء. وفي هذا المكان تحديدا، طرح المستكشف الاميركي سبنسر ويلز الصاعد من جمعية  National Geographicوزميله بيار زلوعا، الاختصاصيان في علم الوراثة، على الموجودين فكرة المشاركة في بحث علمي واسع النطاق، بغية معرفة ما إذا كان هؤلاء الصيادون متحدّرين من أصل فينيقي، ترجع آثاره الأولى في المشرق الى أكثر من 5000 سنة، تبعها انتشار الحضارة الفينيقية في الغرب عبر تجارة قائمة على الإبحار. واذا وافق صيادو السمك على التبرّع بعيّنات من دمهم، يمكن العلماء، اذذاك، فكّ اللغز بواسطة سلسلة كروموزومات Y الجينية الموروثة. الجميع تقريباً اظهروا توقاً الى التطوّع،  ثم وقفوا لالتقاط صور تذكارية.

لاحظ ويلز  ان “غالبية الناس تهتم بتاريخ العائلة وتبهرها فكرة أن في دمها سراً لا يربطها بالأجداد فحسب بل أيضاً بأناس لم تلتقهم قط”. ومن شأن فحوص الدم هذه أن تؤكد ما إذا كان رجال صور، مسيحيين ومسلمين، ذوي قربى بأولئك التجار القدامى.  جمع ويلز وزلوعا كذلك عيّنات في أصقاع أخرى من العالم الفينيقي، بحيث يُحتمل أن تكشف النتائج النسل نفسه في مناطق من المستعمرات السابقة كسردينيا ومالطا.

الاختبار

“أنا فينيقي”، قال احد الشباب، متحدثاً عن شعب محاه التاريخ قبل نحو الفي سنة. “أقلّ ما أشعر به انني واحد منهم وأن أقربائي كانوا لقرون خلت من صيادي هذه المدينة وبحاريها”.

“حسنا، يمكننا اللجوء الى بعض الفينيقيين الحقيقيين”، قال ويلز، وهو يلفّ يد الشاب بيار ابي سعد  بمرقأة، أثناء جلوسهما على شرفة أحد مطاعم بيبلوس، مدينة الحجر اللبنانية الأثرية، المستلقية على شاطئ  المتوسط. وصل بيار  متأخراً، وهو يفيض شغفاً للمشاركة في  الاختبار الرامي الى إلقاء الضوء على الفينيقيين الغامضين، منضماً بذلك الى مجموعة متطوعين مؤلفة من صيادي سمك وأصحاب محال وسائقي سيارات أجرة حول طاولات تغطيها مظلّة المطعم.

ويلز، الشاب المنفتح،  والبالغ من العمر 34 عاماً، اقنع أبي سعد والآخرين بأخذ عينات من دمهم. “إلامَ سيرشدكم هذا الاختبار؟”، قال أبي سعد، فأجابه ويلز: “في دمكم مادة الحمض النووي DNA ، وهي أشبه بكتاب تاريخ. لقد  توالت على بيبلوس، مدى قرون، شعوب كثيرة ومختلفة، وفي دمكم آثار من حمضها النووي، مما سيرشدنا،  الى تحديد علاقة القربى التي تجمعكم بها، والتي تعود الى آلاف السنين”.

لا تراود ويلز أدنى شكوك في قدرة التقنيات الوراثية الجديدة على تعزيز فهمنا للشعوب القديمة. والأمر سيّان بالنسبة الى زميله زلوعا  والبالغ من العمر 37 عاما، هو الذي يجتاحه ولع شديد بالإرث اللبناني. آمال كبيرة يعلّقها الرجلان على إمكان إيجاد مفاتيح جديدة لحل لغز قديم العهد: من كان الفينيقيون؟

ورغم ذكرهم المتكرر في النصوص القديمة كتجار وبحارين نشيطين، تبقى معرفتنا لهذا الشعب الغامض ضئيلة نسبياً. والكنعانيون تسمية يطلقها عليهم المؤرخون في ما يخصّ الحضارة التي سبقت عام 1200 ق. م. أما اليونان، فقد نسبوا إليهم اسم  phoinikes، ومعناه “الشعب الأحمر”- اسم أصبح في ما بعد “الفينيقيين”- نسبة الىالأقمشة الأرجوانية الحمراء المتميزة التي كانوا يصدّرونها. بيد أنهم ما كانوا ليسمّوا أنفسهم “فينيقيين”، بل اعتبروا أنهم سكان المرافئ التي أبحروا منها ومواطنو المدن المسيّجة كبيبلوس وصيدا وصور.

الألفية الثالثة ق.م.، تاريخ سجّل بدء ازدهار ما عرف لاحقاً بالحضارة الفينيقية في المشرق، وهو عبارة عن منطقة ساحلية مؤلفة اليوم، وبشكل أساسي، من لبنان وسوريا وإسرائيل. ولكن لم ينبثق هذا الشعب كقوة حضارية وسياسية بارزة حتى نحو عام 1100 ق.م.، عقب فترة من الفوضى  والانهيار الاجتماعي في أرجاء المنطقة كلها.

ومنذ القرن التاسع وحتى القرن السادس قبل الميلاد، هيمن الفينيقيون على بلدان البحر المتوسط، مؤسسين مراكز تجارية ومستعمرات، بدءاً من قبرص في الشرق، مروراً ببحر إيجه وإيطاليا وشمال إفريقيا، وصولاً الى إسبانيا في الغرب. استوردوا المعادن الثمينة وتاجروا بها، كما صنعوا منتجات كالنبيذ وزيت الزيتون، والأخشاب المستخرجة من شجر الأرز اللبناني الشهير الذي كسا الجبال الشامخة كامتداد لسواحل موطنهم.

اما الجيوش والشعوب التي سيطرت لاحقاً على الفينيقيين فهي  إمّا دمّرت مدنهم أو بنت فوقها. وكتاباتهم المدوّنة غالباً على ورق البردى الهش اهترأت، بحيث بتنا نتعرّف على الفينيقيين، من خلال تقارير منحازة. أما الأدب الغني الذي تميزوا به، فكان مصيره التيه والضياع في العصور القديمة. فيا لسخرية القدر، علماً ان الفينيقيين كانوا هم من اخترع الأبجدية الحديثة ونشروها. وبحكم تصرفهم كوسطاء للحضارة، نشروا أفكاراً وأساطير ومعرفة، إنطلاقاً من العالمين الأشوري والبابلي- ما يعرف اليوم بسوريا والعراق- وصولاً الى أهدافهم في بحر إيجه. وكانت هذه الأفكار  بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل النهضة الحضارية في اليونان، وتاليا ولادة الحضارة الغربية. ومن مصر استورد الفينيقيون كميات كبيرة من ورق البردى، مما حض الإغريق على تسمية أول مرفأ فينيقي ضخم تيمناً بهذا الورق القديم، فكانت “بيبلوس”. وكلمة Bible أي “الكتاب” مشتقة كذلك من كلمة بيبلوس. “أضحى الفينيقيون أشباحاً، حضارة مندثرة”، هذا ما يقوله اليوم ويلز، آملاً أن يقرأ وزلوعا أبجدية مختلفة، أبجدية الأحرف الجزيئية في الحمض النووي، استحضاراً لتلك الأرواح.

العلاقة الوراثية

عام 2000 نشأت صداقة بين ويلز وزلوعا في جامعة هارفرد حيث كان الاول في خضمّ تطوير تقنيات وراثية لرسم خريطة هجرة الشعوب القديمة، مستعيناً بكروموزومات سلالاتها الحية، والآخر في طور استحداث أساليب علمية لمداواة وطن أعيته حرب أهلية طوال 15 سنة.

صبّ زلوعا جلّ اهتمامه على فهم العلاقة الوراثية القائمة بين لبنانيي اليوم وأجدادهم الفينيقيين. وإبّان الحرب في لبنان، شهرت بعض المجموعات تسمية “فينيقي” سلاحاً إيديولوجياً لها، بحيث ادّعى الموارنة، الطائفة المسيحية المسيطرة في لبنان، نَسَباً مباشراً مع الفينيقيين، في إشارة الى امتلاكهم حقاً تاريخياً وشرعياً على لبنان يفوق حق الوافدين إليه لاحقاً من شبه الجزيرة العربية. واقع أثار سخط الوسط الإسلامي، إذ تحوّل مصطلح “فينيقي” رمزاً  يدلّ على المسيحيين أكثر منه على المسلمين، ولا زال حتى يومنا هذا”.

“لقد  بات استخدام كلمة “فينيقي” هنا من المحرّمات”، قال  زلوعا، مضيفاً: “في المتحف الوطني غياب لهذا المصطلح، فهم يسمّون الأشياء نسبة الى العصر الذي تنتمي إليه: فترات العصر البرونزي الأولى أو الوسطى أو الأخيرة”.

فهل يفلح علماء الوراثة في إثبات ما إذا كان لبنانيو اليوم، مسيحيين ومسلمين، يتشاطرون الإرث الفينيقي نفسه؟ سؤال يسعى المشروع الذي تموّله جمعية National Geographic الى الإجابة عنه، وهو واحد من أسئلة أخرى يثيرها ويلز وزلوعا، منها دأبهما لمعرفة مدى هجرة المجموعات الغامضة المعروفة بشعوب البحر الى لبنان حوالى عام 1200 ق.م.، وتزاوجها مع الكنعانيين، وبالتالي خلق الحضارة الفينيقية. ورغم أن شعوب البحر تلك، الوافدة على الأرجح من بحر إيجه، نهبت المدن الرئيسية على طول ساحل المشرق وأحرقتها، غير أنها وفرت على ما يبدو المدن الكنعانية. وفي هذا الإطار، ترتأي ماريا أوجينيا أوبي من جامعة Pompeu Fabra في برشلونة، وهي عالمة بارزة في الحضارة الفينيقية، أن يكون الكنعانيون قد عقدوا صفقة مع شعوب البحر، وتقول: “أعتقد انهم أصبحوا أصدقاء، إذ تُظهر الحضارة الفينيقية المادية عوامل مشتركة كثيرة مع شعوب البحر، بحيث علّمها الفينيقيون كيفية بناء الموانئ والمراسي وأحواض السفن والأرصفة البحرية. وكانت هذه الشعوب،  أسوة بالفينيقيين، من الملاحين المهرة يعرفون الطرق المؤدّية غرباً الى مصادر المعادن النفيسة”.

ويظن ويلز ان شعوب البحر زرعت جيناتها في الحمض النووي الخاص بالكنعانيين. “هل كانت ثمة هجرة جماعية لشعوب البحر؟”، تساؤل طرحه ويلز أثناء تناوبه وزلوعا على جمع عيّنات الحمض النووي في بيبلوس. “هل ساهم ذلك في خلق فئة جينية فينيقية؟ بين أيدينا اليوم أدوات تخولنا الإجابة عن هذا التساؤل”.

ويلز وزلوعا هما في طور البحث عن مؤشرات في الدم تدلّ على التغيرات الجينية في العهد الفينيقي. مؤشرات غاية في الدقة باعتبار ان التغيّرات طرأت على بضعة أحرف من بين ثلاثة مليارات مطبوعة في “كتاب” التعليمات الجينية. مؤشرات يمكن رصدها في نقاط معينة من كروموزومY ، وهو عبارة عن رزمة خيطية من الجينات موجودة في نواة معظم خلايا الرجال. ويتحدّد الجنس وفقاً لكروموزومي X  وY، حيث يكون للإناث اثنان من X  وللذكور X  واحد وY واحد. وفي كروموزوم Y جينات الذكورة، وهو الكروموزوم الوحيد الذي يتوارثه الابن من أبيه فقط، لا من أمه. هذه التغيرات في الحمض النووي تنتقل من جيل الى آخر، بحيث ورث نسل الذكور الفينيقيين سلسلة التغيرات الجينية القديمة الى أبعد الحدود. والتحاليل الجينية تضع جميع الذكور الحاليين في خانة ذرية كروموزوم Y مشترك، لقبه آدم، وهو من عاش في إفريقيا قبل نحو  60 ألف سنة، ثم ملأ نسله أرجاء المعمورة. وقد شهد لبنان، منذ العهد الفينيقي، الكثير من حركات الهجرة، لا سيما تلك الوافدة من شبه الجزيرة العربية إبّان بزوغ فجر الإسلام، ومن أوروبا أثناء الحروب الصليبية.

“إن الإرث الجيني الناتج من حركات الهجرة تلك واضح جدا”، هذا ما قاله زلوعا، متحدثاً كذلك عن هجرة الغزاة الوافدين من الشمال. ويضيف: “ثمة قرى لبنانية ما زالت تشمل نسباً عالية من الشقر ذوي البشرة الفاتحة”.

ان عملية تحديد المؤشرات الخاصة بالفينيقيين تقتضي مقارنات متطورة للحمض النووي المستأصَل من آلاف الرجال كأولئك في بيبلوس. بيد أن هذه المدينة تشكل واحدة من محطات كثيرة في إطار حملة جمع العيّنات التي يقوم بها ويلز وزلوعا، حملة لن تثمر قبل انقضاء أشهر عدة.

الباحثون الوراثيون ليسوا الوحيدين في استنباط مفاتيح لغز جديدة تحدد هوية الفينيقيين، بل ثمة علماء في لبنان وشمال إفريقيا وإسبانيا في صدد الحصول على بينات أخرى بواسطة علم الآثار التقليدي. واحدة من هؤلاء هي عالمة الآثار اللبنانية كلود ضومط سرحال التي تقود فريقاً يستكشف بانتظام وللمرة الأولى مرفأ صيدا الذي يشكل مدينة فينيقية رئيسية أخرى. يختبئ قلب هذا المرفأ القديم تحت مدينة حديثة مزدهرة لم يلجها علم الآثار الى ان تمّ هدم مدرسة تعود الى القرن التاسع عشر م. وبعد تمويل من المتحف البريطاني ومن مجموعة جهات راعية عام 1988، باشر الفريق التابع لسرحال حفر وسط  المدينة القديمة.

“إننا نساهم في ولادة جديدة لعلم الآثار في لبنان بعد حرب أهلية دامت 15 سنة”، قالت سرحال، أثناء نزولها في اتجاه الحفريات الممتدة على طول ملعب كرة قدم وسط “بازار” من الأبنية القديمة.  حيث تقوم مجموعة من علماء الآثار المحترفين وطلابهم بالحفر والانتقاء والنقش في اكتشافات عمرها 5000 سنة.

المواسم الثلاثة المنصرمة أنتجت كتلة ضخمة من الاكتشافات، وتقف سرحال حيث يقوم بعض أعضاء الفريق بنبش عظام من مقبرة تعود الى القرن العشرين ق.م. طبقة غريبة من الرمل  تبلغ سماكتها أربعة أقدام تردم جثة مستكشفة، الى ثلاثين جثة أخرى. طبقة تعود الى ما بعد عام 2000 ق.م. بوقت قصير. وقامت سرحال، تلفّها حيرة جامحة، بتحليل الذرات، مكتشفة ان مصدرها كثيب رملي مجاور.

“نخل سكان صيدا القدماء الرمل ونقلوه يدويا”، قالت سرحال، وتستطرد: “انه لأمر عجيب، إذ عانوا ما عانوه لصنع هذه الطبقة”. هل هي عادة أقحمتها موجة الغزاة الى صيدا؟ ما من دليل على ذلك. أولى الجثث المدفونة في هذه الطبقة هي لنخبة المحاربين، بحيث تم بناء مدافنهم بواسطة القرميد وتدبيجها بالأسلحة المصنوعة يدوياً وبأناقة. وتحتوي هذه المقابر كذلك على جثث السكان العاديين، بما فيها جثث الأولاد التي وضعت داخل أوعية من طين. وقد أظهرت  الدراسات التي أجراها الباحثون حول أسلحة المقاتلين مفاتيح لغز مهمة مستقاة من  المعادن التي تبيّن استخراجها من مناجم في تركيا الحديثة وقبرص وسوريا، دلائل تشير الى انخراط سكان صيدا منذ عام 1950 ق.م. في تجارة المعادن المزدهرة في شرق البحر المتوسط. وثمة معلومات تكشفها أخشاب حطام سفينتين فينيقيتين تعودان للقرن السابع ق.م.، عثر عليهما  عند سواحل إسبانيا، وتحديداً في خليج مزارون Bay of Mazarron قرب قرطاجنة، معلومات حول طريقة الفينيقيين في بناء السفن. “إنها المرة الأولى التي يُعثر فيها على سفن الفينيقيين الفعلية”، بهذا الكلام اوضح إيفان نيغيريلا من المتحف الإسباني الوطني للآثار البحرية “ان سفنهم هي مفتاح مستعمراتهم وبوصلة الاتجاهات التي سلكوها عبر المتوسط،  بحيث يتعذر علينا فهمهم من دون سفنهم، كما يمكننا اليوم التعرف على كيفية قطعهم الأخشاب ووصلها بعضها ببعض”.

رسم يُجسّد الاتصال

لكن متى بلغ الفينيقيون  الأطلسي؟ سؤال يطرح العلماء حوله احتمالات عدة. فالنصوص التقليدية تعتبر انهم أنشأوا عام 1100 ق.م. مستعمرة في قادس  بعد مضيق جبل طارق، غير أنه ما من آثار تعزى الى ما قبل القرن الثامن ق.م. عالم الآثار الإسباني فرنسيسكو جيلز، وهو مستكشف متمرّس في الآثار القديمة، القريبة من الساحل الأندلسي، يرى امكان استخلاص جواب عن هذه المعضلة من خلال رسم قائم على ملاذ صخري في الجبال المطلّة على المضيق. هذا الرسم الذي اكتُشف في منطقة نائية من غابة شجر الفلين يرقى بأسلوبه المتميز الى أواخر الألفية الثالثة ق.م.، مصوراً سفينة شراعية محاطة بمجموعة من الأشكال الجامدة. “رسم يجسّد الاتصال، إذ يعبّر عن شيء لم يره السكان المحليون قط”، هذا ما يقوله جيلز. أما معاونه كليف فينلايسون من متحف جبل طارق، فيعتبر “ان السفن كانت على الأرجح فينيقية، إذ أن الفينيقيين كانوا قد استقروا هناك”، فكان استيطانهم  في هذه الأرض حيث أسسوا في القرن الثامن ق.م. تجمّعات على طول الساحل الإسباني الجنوبي، مما خوّلهم حصدغلات الأرض والاستئثار بثروات المناجم الإيبيرية.

ويتابع جيلز: “ابتدع الفينيقيون مفهوم الاستعمار، كما زوّدوا الإيبيريين بمنتجات الشرق الحضارية. وفي المقابل، استحوذوا على موارد الإيبيريين الطبيعية”.  ويُعتقد كذلك أن يكون الفينيقيون قد أحضروا أمراً آخر الى إسبانيا، هو كروموزوم Y الخاص بهم. من هنا ينوي ويلز وزلوعا التحقق من المؤشرات الفينيقية الأصل في دم الإسبانالأحياء، لكن عليهما أولاً جمع عيّنات الدم في مناطق أقرب الى الوطن الفينيقي الأم.

المكان، مرتفع “بيرسا”  الممتد  عل طول الساحل التونسي شمال إفريقيا والمطل على مساكن قرطاج الحديثة، العاصمة وأكثر ضواحي تونس اكتظاظاً بالسكان. وفي الأفق، أشباه جزر  تمتد في قلب البحر الأزرق. الزمان، صباح مشمس من شهر تشرين الأول، تسلّق عنده ويلز وزلوعا تلة “بيرسا” محدقين في الشوارع المحفورة التابعة لواحدة من أقدم المستعمرات التي أنشأها الفينيقيون، وأكبرها على الإطلاق.

عام 814 ق.م.، ساهمت مدينة صور في تأسيس قرطاج  التي أضحت بعد نحو 300 سنة قوة هائلة  عقب حصار البابليين لمدينة صور الذي دام 13 عاماً، مستنزفاً مواردها كلها. وعلى أثر ذلك، هيمنت قرطاج على غرب المتوسط وطوّرت تدريجاً حضارتها الخاصة المعروفة لدى الرومان بالحضارة البونية Punic . في القرن الثالث ق.م.، ومع نشوء روما كنفوذ في وسط المتوسط، تصارعت وقرطاج في سلسلة معارك عرفت بالحروب البونية. وقبل أن يوشك القائد القرطاجي هنيبعل على غزو روما، هُزم عام 202 ق.م. قرب قرطاج التي أحرقتها روما عام 146 ق.م.، مدمّرة بذلك آخر أهم المدن الفينيقية.

وصل ويلز وزلوعا الى قرطاج ملتمسَين مساعدة زملائهم التونسيين بغية العثور على ما تبقى هنا من الكروموزومات الفينيقية في الحمض النووي الموجود في خلايا السكان المحليين. المهمّة معقّدة، إذ أن شعوباً شرق أوسطية وإفريقية ورومانية خلّفت جيناتها في قرطاج على مرّ القرون. وبالتالي، يصعب القيام بعملية حسابية تؤدي الىتحديد تاريخ نشوء سلسلة معينة من الكروموزومات، غير ان ويلز وزلوعا يقرّان بقدرتهما على تأريخ التغيّرات الجينية بدقة نسبياً.

إن بعض الأجزاء القصيرة من الحمض النووي “البالي”، المسمّى “ميكروساتيلايت” microsatellites،  يتغير بسرعة أكبر من الأجزاء الطويلة، إنما بوتيرة ثابتة، مما يكون بمثابة ساعة تخوّل علماء الوراثة تحديد عمر كروموزوم معيّن. فعلى سبيل المثال، يعلم ويلز انه من ذرية كروموزوم Y، مصدره غرب أوروبا، ويُعرف بـ”م 173″. وتشير الـ”ميكروسلتيلايتس” الى أن أصل “م 173″، وأب معظم الأوروبيين الغربيين، إنسان عاش قبل نحو 30،000 سنة. أما زلوعا، فهو من نسل “م 20” الذي نشأ في إيران في الفترة نفسها، وهو نسل يعيش السواد الأعظم منه اليوم في الهند. وأقل من 2% من الرجال اللبنانيين يحملون هذا النوع من الكروموزوم. وينتمي معظم رجال الشرق الأوسط الى نوعي “م 89″ و”م 172”. وفيما يعزى الأول الى هجرة كبيرة خارج إفريقيا منذ حوالى 45،000 سنة، يرقى الثاني الى فجر العصر الزراعي قبل حوالى 12،000 سنة. ولا بد من ظهور مؤشرات الفينيقيين الجينية في أحد هذين النوعين. أما معظم الرجال الذين قطنوا المنطقة المحيطة بقرطاج قبل وصول الفينيقيين، فهم يحملون على الأرجح نوع “م 96″، وهو النوع الجيني الأصلي في بلدان شمال إفريقيا وغربها. وانطلاقا من هنا، وفي حال وجد ويلز وزلوعا في تونس أعداداً كبيرة من كروموزومي Y الشرق أوسطيين، “م172” و”م89″، فهذا يشير الى وجود صلة ما مع الفينيقيين.

يقول ويلز: “إذا وجدنا هنا مؤشرات جينية يمكن أن يكون أصلها من الشرق الأوسط خلال زمن الفينيقيين، نستطيع عندها أن نفترض مصدرها الفينيقي”.

“بئر مسعودة”

وفيما يستكمل ويلز وزلوعا جمع العينات في تونس، يقوم روالد دوكتر، عالم الآثار الهولندي والبروفسور في جامعة “غنت”، بتحليل تصور آخر للاستعمار الفينيقي في قرطاج. دوكتر عضو في فريق تونسي- بلجيكي نقب اخيراً مقبرة تعود الى أول الأجيال الفينيقية التي استقّرّت في قرطاج. يبدو هذا الموقع الأثري عادياً للوهلة الأولى، أسوة بالكثير من مواقع الحفريات الأخرى، وهو يقع قرب متجر كبير في منطقة حضرية، ملتحفاً ملاءة من الأعشاب الضارّة ورازحاً تحت أكوام النفايات والزجاجات البلاستيكية. وقد تسببت الأمطار الغزيرة  بانهيار الخنادق التي حفرت خلال الموسم المنصرم. “كانت النظافة تعمّ المكان منذ شهر”، هذا ما يقوله دوكتر، وهو يسير على حافة خندق عميق وموحل، مشيراً الى حفرة دائرية في صخرة صفراء في الأسفل، يبلغ قطرها ثلاث أقدام، وهي واحدة من تسع حفر اكتشفها زملاؤه التونسيون. فيها وجدوا إرباً من أوعية خاصة بالدفن الى أجزاء عظام ما هي إلاّ عظام أوائل المستعمرين.

 هذا الموقع الأثري المعروف باسم “بئر مسعودة” والمتاخم لمنطقة ساهم دوكتر في التنقيب عن آثارها بالتعاون مع فريق من جامعة هامبرغ، يكشف كيف غيّر الفينيقيون مستعمرتهم وأعادوا تنظيمها حتى غدت مدينة في ما بعد. ففي القسم الأول من القرن الثامن ق.م.، كانت المنازل بعيدة بعضها عن بعض، وذلك على طول درب تملأه النفايات، تمّ رصفه لاحقاً بالحصى. ومع وفود المزيد من المستعمرين، إكتظّت المدينة بالسكان وأضحت أكثر حضرية. كما يشير وجود بقايا أسنان الفيلة الى تجارة العاج.

حوالى عام 675 ق.م.، إجتاح قرطاج دفق آخر من الفينيقيين، ما أدخل نوعاً جديداً من المنازل تميّز به المشرق وكان مؤلفاً من أربع غرف. وبحكم وقوفهم على أعتاب التهديد الأشوري المتفاقم، هجر العديد من سكان صور وطنهم الأم.

ويعتبر دوكتر انك “أنت أيضا كنت لتتجه غرباً إذا ما اقتحمت بلدك سنوياً مجموعة من الجنود الأشوريين، مغتصبة النساء وناهبة الأموال”.

خلال تلك الفترة، استعاض السكان عن مكان المقبرة الأصلية بموقع ضخم لصنع الأدوات المعدنية. وقد دهش فريق دوكتر لاكتشاف بقايا تكنولوجيا متقدمة، بحيث أظهر “السكانر” الذي أُخضعت له المنافخ القديمة احتواءها صمّامات تسريب تعدّل دفق الهواء داخل المواقد بغية رفع حرارة الحديد الساخن. كما نجح القرطاجيون حينها في تطوير أسلحتهم عبر تكنولوجيا ذات صلة بعلم المعادن أو “الميتالورجيا”، مماثلة لعملية بسّمر لإنتاج الفولاذ Bessemer process التي طوِّرت في القرن التاسع عشر م. واكتشف هانس كوَنس، عالم المعادن في جامعة أمستردام، اعتماد القرطاجيين إضافة كميات كبيرة من الكالسيوم الى المعادن، ما يقوّي الحديد كيميائياً. وفي الموسم المنصرم، رصد فريق البحث التابع لدوكتر مصدر هذا الكالسيوم الذي استُخرج من أصداف المرّيق أو “الموركس”، وهو نوع من الرّخويات ينتج صبغاً أرجوانياً سُمّي الفينيقيون باسمه. ولوحظ ملء مواقع صنع المعادن بكميات ضخمة من الأصداف المسحوقة الى مطاحن البازلت والمجالخ.

 ومع نهاية القرن الخامس ق.م.، استسلمت منطقة صنع المعادن هذه أمام دفق سكاني آخر، ما حض السكان على بناء المنازل فوق المواقد، منازل تعرّي أسسَها الحفريات الجارية في بئر مسعودة. وهكذا، انتمى سكان قرطاج حينها الى مجتمع جديد بعيد عن المؤسسين الفينيقيين بُعد سكان أميركا الشمالية الحاليين عن أجدادهم، مستعمري البلاد في القرن السابع عشر م. كما عبدوا آلهة جدداً استوحوهم من آلهة صور، مع الحفاظ دوماً على الأسلوب الفينيقي. أما شهوة التجوال التي تميّز بها الأجداد، فاكتسبوها من خلال رحلاتهم حول إفريقيا وربما أبعد.

وبعد قرون من سيطرة القرطاجيين على غرب المتوسط، أخفقوا أخيراً في مقاومة نفوذ روما. وشنيعة كانت الساعات الأخيرة. “استعرت النار في كل مكان”، هكذا كتب آبيان أثناء وصفه اختراق الجنود الرومان جدران المدينة وحرقها عام 146 ق.م.، مدمّرين الأبنية على رؤوس السكان المختبئين داخلها. وكان دوكتر وجد براهين مذهلة تؤكد هذا الحريق الهائل، مشيراً الى الأسفل حيث اكتشف فريقه أرضية منزل مصنوعة من الفسيفساء، تكسوها طبقة من الفحم الأسود.”هذا من مخلّفات حريق عام 146 ق.م.”، يقول دوكتر.

ويعتبر عالم الآثار التونسي نجيب بن لزرغ انه إثر سقوط قرطاج، تمّ استعباد شعبها الذي اندثر في ما بعد، “هذا لا يعني ان هذه الحضارة امّحت، إذ باتت جذورها ضاربة في شمال إفريقيا، بحيث ينبغي انقضاء قرون عدة حتى يتخلّى شعبها عن لغتهم. ففي عام 193 م.، اعتلى عرش روما الامبراطور سبتيميوس سيفيروس، وهو من شمال إفريقيا ويجيد اللغة الفينيقية. كان ذلك بمثابة ثأر لقرطاج”.

الإرث الفينيقي

الوجود الفينيقي ديمومة تؤكدها الوراثة أيضاً، بحيث انه في مرحلة مبكّرة من هذا العام، وبعد انتهاء ويلز وزلوعا من جمع عينات الحمض النووي، سيوجهان البحث نحو تحليل آلاف الزجاجات البلاستيكية المحتوية الحمض في مختبر زلوعا في الجامعة الأميركية في بيروت.

يقول زلوعا وفي يده علبة الزجاجات المجمّعة في تونس: “هذا كله هو مركّز الحمض النووي”. ثم يسحب إحدى الزجاجات المدوّن عليها “د ن 44” قائلا: “سنمزج القليل من هذا مع الأنزيمات الملائمة على قطعة زجاجية لعزل جزء معين من الحمض النووي الخاص بكروموزوم Y المرجو تحليله. لدينا الكثير من المعطيات الواجب تحليلها”. يطبع زلوعا كذلك لائحة من المعطيات اللبنانية، مشيراً بإصبعه الى لائحة العيّنات المحلّلة. ويتبين ان معظمها، وليس كلّها، يشير الى جذور شرق أوسطية أو إفريقية.”آه! هذا سبنسري أي أوروبي”، يؤكد زلوعا، مشيراً الى نوع “م 173″، ومضيفاً: “يمكن هذا الرجل أن يكون من أصل صليبي”. تحليل العينات اللبنانية والتونسية سيُستكمل خلال الأشهر القليلة المقبلة، ومع انتهاء الصيف، سيكون ويلز وزلوعا قد خلصا الى بعض النتائج.

الفينيقيون، من كانوا؟ الجواب الذي تكشفه عينات الحمض النووي يرضي العلماء ويحبطهم في آن واحد. ولعلّ الأهم إيجاد هوية جينية مشتركة للشعب اللبناني المعاصر، ترقى الى آلاف السنين.

يقول ويلز: “الفينيقيون كانوا الكنعانيين وأجداد لبنانيي اليوم”. نتيجة تدحض نظريته القائلة ان شعوب البحر المهاجرة تزاوجت مع الكنعانيين، ما أدّى الى خلق الحضارة الفينيقية. ويستطرد ويلز: “يبدو ان شعوب البحر لم يكن لها أي تأثير جيني على شعوب المشرق، فالسكان الذين يعيشون اليوم في المناطق الساحلية حيث يفترض تزاوجهم مع  شعوب البحر، يتميّزون بنماذج من كروموزوم Y مطابقة لتلك الخاصة بشعوب المناطق الداخلية. فهم أساساً شعب واحد”. استنتاج  يبهج زلوعا، إذ يؤيّد اعتقاده مشاطرة اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، إرثاً جينياً قديماً. ويقول: “عسانا اليوم نرسي هدنة لصراعاتنا الداخلية”.

أما المعطيات التونسية، فتعيد كذلك تحديد الإرث الفينيقي. ويقول ويلز: “كان للفينيقيين أثر خجول في شمال إفريقيا، اذ لا تفوق   نسبة الرجال الذين يملكون كروموزوم  Y ذي أصل شرق أوسطي الـ20 في المئة، بحيث يحمل معظمهم النموذج الأصلي “م 96″ المتحدّر من شمال إفريقيا”.

ويمكن هذا الدفق الوافد من الشرق الأوسط أن يكون نتيجة ثلاثة موجات: العصر الزراعي في شمال إفريقيا قبل 10،000 سنة، الاستعمار الفينيقي والفتح الإسلامي منذ 1300 سنة. أما ما يعرف بالـ “ميكروساتيلايت”، فسيخوّل الباحثين تقدير تاريخ دخول الشعوب التي تحمل تلك المؤشرات الجينية. حتى لو تبيّن انهم عاشوا جميعاً خلال العهد الفينيقي، يبقى تأثير الفينيقيين على الشعوب المحليّة خجولاً نسبياً. ويقول ويلز في هذا الصدد: “يبدو انهم لم يتزاوجوا كثيراً، بل اقترنوا الى حدّ كبير بعضهم ببعض”. ونظراً لهذه المؤشرات الجينية النادرة، سيضطر ويلز الى تعديل خطته القائمة على تعقّب آثار الفينيقيين حول المتوسط أو ربما أبعد.

“كانوا شعباً “زلقاً”، يقول ويلز، “شعب يدخل، يتاجر ثم يغادر. وأظن أن هذا يزيدهم غموضا”.

(ع مجلة “ناشونال جيوغرافيك”، تشرين الأول 2004)