الياس الزغبي: ناخبون بدون ناخبين

156

ناخبون بدون ناخبين
الياس الزغبي/لبنان الآن/30 تشرين الأول/16

للمرّة الأُولى تحصل انتخابات رئاسة الجمهوريّة في لبنان، قبل اتفاق الطائف وحتّى بعده، مع مفارقة سياسيّة وشعبيّة مثيرة للغرابة، وموجبة للتوقّف عندها واستخلاص عِبَرها. ففي الاستحقاق الراهن، تذهب الكتل النيابيّة والنوّاب، زرافاتِ ووحدانا، لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة بدون رضى الناخبين والبيئات الحزبيّة والسياسيّة والعائليّة والطائفيّة التي انتخبت هؤلاء النوّاب ومنحتهم وكالة مطلقة، لأربع سنوات فقط، زيدت عليها أربع أُخرى بالتمديد. تشذّ عن هذه الحالة فئتان من النوّاب:

– الذين التزموا إرادة ناخبيهم في رفض المرشّح المقترح، فأعلنوا التصويت بورقة بيضاء أو لمرشّح آخر. وأبرز هولاء تكتّلات “التنمية والتحرير” و”الكتائب” و”المردة”، وثنائيّات نيابيّة حزبيّة، ونوّاب مستقلّون من أصحاب الوزن الشعبي (المرّ، ميقاتي، مكاري، شمعون، حرب، الحوت…)، إضافة إلى الرافضين داخل كتلة “المستقبل” بقيادة الرئيس السنيورة.

– أمّا الفئة الثانية فمؤلّفة من التكتّل الذي ينتمي إليه “الرئيس العتيد”. وهذا أبسط الأُمور وأقلّ الإيمان.

خارج هاتين الفئتين، ستصب أصوات النوّاب لمصلحة المرشّح المتفق عليه مسبقاً مع تسجيل حالة انفصام أو قطيعة بينهم وبين قواعدهم الشعبيّة الناخبة.

فليس خافياً أنّ الأكثريّة الشعبيّة الطوائفيّة التي يمثّلها هؤلاء غير مرتاحة لخيار انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة، أو على الأقلّ غير مقتنعة، وعلى الأقلّ الأقلّ غير متحمّسة. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال الأمثلة الآتية:

– في البيئة المسيحيّة، يسهل تسجيل رفض شريحة واسعة من خارج ثنائيّة الرابيه – معراب ومن داخلها. خارجها قوى وازنة حزبيّة وسياسيّة وتمثيليّة واسعة، وداخلها فتور شريحة لا يستهان بها من “التيّار العوني” نفسه على خلفيّة حملات الطرد والقمع الأخيرة، وعدم حماس قاعدة “حزب القوّات اللبنانيّة”، بل استياء قسم كبير منها تجاه المنحى الذي اتّخذته المصالح السياسيّة.

– في البيئة السُنيّة، يكاد يكون هناك شبه إجماع على التحسّس العالي من عون، بسبب “بصمته” غير المنسيّة على “الغربيّة” في “حرب التحرير” (1989)، وسيرته السيّئة على مدى 11 سنة مع رموزها ومرجعيّاتها، عبر حملات مركّزة وتخوين واتّهامات بالفساد والإفساد ومصادرة حقوق المسيحيّين. ولم ينجح دعم الحريري لعون في اختراق الوجدان السًنّي، فاقتصر التأييد على القيادات العليا في “تيّار المستقبل”، ولم يبلغ مستوى الكوادر الوسطى والقاعدة الشعبيّة، فيما وقفت زعامات سنيّة وازنة أُخرى ضد الترشيح.

– في البيئة الشيعيّة، تُسجّل حالتان: رفض حاسم من قواعد “حركة أمل” وكوادرها وقياداتها ونوّابها، ومن قادة الرأي والمثقّفين والصحافيّين وناشطي المجتمع المدني، مقابل تأييد من قيادة “حزب الله” مع فتور ظاهر لدى القاعدة، خصوصاً بعد موجة التشكيك الواسعة من العونيّين، و”التفاهمات” المثيرة لريبة كوادر الحزب وجمهوره والتي عقدها عون مع “المستقبل” و”القوّات اللبنانيّة”.

– ولدى الطائفة الدرزيّة “نقزة” شديدة من القيادتين التاريخيّتين تجاه عون، بكلّ أثقال ماضيه ولغته الطائفيّة الحادّة بالنسبة إلى “حرب الجبل” وذيولها. ولا تعوّض مواقف التأييد من شخصيّات مزروعة على عجل في مشتل الوصاية السوريّة شيئاً ذا أهميّة في الطائفة.

مشهد سياسي وشعبي متناقض لا يبشّر بعهد استقرار، ولم يواجهه أيّ رئيس جمهوريّة في السابق.

لم يَخلق ترشيح أيّ رئيس إشكاليّة عميقة كما يحدث مع ميشال عون. إنّها إشكاليّة شعبيّة بامتياز، حتّى داخل البيئة التي يستمد قوّته التمثيليّة منها. فناخبو الرئيس يجدون أنفسهم في وجه ناخبيهم. ناخبون بدون ناخبين! وللمرّة الأُولى، رئيس جمهوريّة “منتخب” في لبنان يؤسّس لنظام أُوليغارشي واضح من الطبقة السياسيّة فقط، تصحّ فيه مناداة المنادي في المعادلة الرحبانيّة: “الرعيان بوادي والقطعان بوادي”.ظاهرة في الاجتماع السياسي تجدر دراستها في العهد العتيد الموعود.