طارق متري/الصيغة اللبنانية والانتقال من العيش المشترك إلى العيش الواحد

311

الصيغة اللبنانية والانتقال من العيش المشترك إلى العيش الواحد
 طارق متري/الحياة/14 آب/15

كثيراً ما تستبعد الأحلام عن الحياة السياسية، ذلك أنها تجنح عند البعض بعيداً من الواقعية أو تحسب رديفة للأوهام. ويفوت هؤلاء المستبعدين أن معرفة الواقع لا تُعفي من البحث عن المعنى ولا التبصر في المآلات. فالواقع مهما أحسن الواقعيون تفسيره يحبل باحتمالات شتى وغالباً ما تعجز معرفته بقوة ذاتها عن تلبية الحاجة القوية إلى المعنى، لا سيّما أنّ هذه الحاجة لا تستنفدها الرغبة في توكيد الذات فور إعلان الهوية. أما الأوهام، فهي منفصلة عن الواقع تحمِّله ما لا يحتمل، تضخِّم جزئياته أو تشوهها حتى تصل بصاحبها إلى ضعف الإدراك أو سوئه. وخلافاً لما يراه المُحجِبون عن الأحلام بعدما ضيَّعوا أعماراً في الجري ورائها، لا يقع رمزي الحافظ في واقعية الخيبة والاستكانة ولا في الحنين إلى زمن طغى فيه التعلّق بالحلم على استقراء الواقع. ومع ذلك، يقي نفسه من الاستعجال ومعه التوهّم، فيقول بالتراكم ويعترف أن الثمار لن تقطف إلا بعد حين، أي عندما تكبر الكتلة المؤمنة بالمعاني المستشفّة في حلمه. وكأنِّي به، على غرار غرامشي، يذهب من تشاؤم الأذكياء إلى تفاؤل أصحاب الارادة.

ويعترف رمزي الحافظ من الصفحات الأولى لكتابه «الحلم اللبناني»** بتعدد السرديّات التاريخية في لبنان والمزيّنة بتعريفات متنوعة لما يميّز بلدنا، قديمه وحديثه، ويذكر بعضها من دون اعتمادها مبدأ ناظماً لتكوُّن لبنان وسيرورته، كالقول مع ميشال شيحا أن لبنان بلد ملجأ وبلد هجرة. لذا، حاذر الحافظ الترويج لأيّ من أساطير التأسيس أو خرافات الأصل. وكما في السردية التاريخية، كذلك في الصيغة، يقرُّ الكاتب، وهذا إقرار صعب ولعله موجع، أن لكل لبناني تعريفاً خاصاً لها وميلاً إلى المبالغة في وصف فرادتها وتعداد نجاحاتها واستعداداً إلى تجاوزها عندما تحين الفرص.

في ظنِّي، يضمر هذا الإقرار المزدوج تردداً في التعامل مع وعي ذات الطائفـــية، وهو وعي يرى اللبنانييـــن بصورة جماعات متجاورة، متلاقية حيناً، ومفتــرقة حيناً آخر. وهي في الحالتين، تبحث عن معادلة مستقرة تطمئن الخائفين مرَّة، وتوزع الحصص في دولة-غنيمة مرة أخرى. وللإقرار هذا، في تطور طبقـــات التاريخ اللبناني الحديث وهـــي أربعة يرسم رمــزي الحافظ ملامحها الخاصة وعنـــاصــر الاتصال والانفصال بينها، وجه آخر. فإذا صـــار التعدد بعد التنازع الدامي مبرراً لنظام سياسي وإداري كنظام القائمقاميتين أو أشباهه المعاصرة متخيّـلة كانت او مرغوبة عند بعض اللبنانيين، يتبيَّن عجز التقسيم عن وأد الفتن ويظهر الفشل عند اعتماد صيغ حكم الطوائف لأنفسها وحكم طرف لآخر.

أما الوجه الثالث لهذا الإقرار، فهو أنّ سياسات الهويات الطائفية على رُسُوخها لم تقو في المراحل كافة على مشاريع الحكّام ولا على تدخلات القوى الخارجية، فاضطرت للتكيّف معها بعدما ساهمت نسبياً في صنعها. لم تنشئ رغبة الناس، في عصر تقرير المصير، أي في مطالع القرن العشرين، تلك السياسة. يشهد على ذلك ما حلّ بتقرير لجنة كينغ كراين الذي تقصى الحقائق من أفواه فئات واسعة من اللبنانيين، ولم يعط الأهميّة التي يستحقّ. اما في زمن الديموقراطيّة، زمننا الحالي، ما زالت رغبة الناس قاصرة على إنشاء نظام يرى الناس كما تريد أن تُرى. والعذر في ذلك أنّ تلك الرغبة ليست دائماً جليّة. فرغبة اللبنانيين يكتنفها الغموض والتشرذم. فاللبنانييون يريدون أن ينظر إليهم مرّة بوصفهم مواطنـــين متساوي الحقـــوق في دولة الحقّ، ويشكون بصورة أو أخرى من نظام المحاصصة الطائفيّة أياً كانت الأوصاف المطلقة عليه. لكنّهم في الوقت نفسه، ســـرعان ما يلوذون به ويرضون باستمراره، مرّة باسم الـــواقعيّة التي فرضتها ظروف الطوائف المتعاقبة، ومــرّة أخرى باسم الحاجة إلى طمأنة من صاروا أقليّة في رؤوسهم قبل أن يصبحوا أقليّة في أعدادهم. ولعلّ التطـــوّر التراكمي للصيغة اللبنانيّة وصل باللبنانيين وبممثّلــيهم السياسيين إلى العيش في ظلّ توتّر دائم بين الإنتماء الوطني والهويّة ما دون الوطنيّة، فيتطلّعون إلى الأول، أي الإنتماء الوطني، ويأسفون إلى تخلّف شركائهم عن السير في طريقه ثمّ يسرعون فيحذون حذوهم ويستقرّون في الثانية لأنّها تبدو لهم بفعل جذورها التاريخيّة أقلّ هشاشةً من وطن يبقى مصـــيره تحت السؤال. بعبارة أخرى، نجد عند أكثريّة اللبنانيين قناعة قويّة بالانتماء إلى وطن واحد، صنعتها تقلّبات التاريخ الحديث وتبادل طرق العيش والمشاعر وتشارك المصالح واعتناق الحداثة، ونجد عندها أيضاً قناعة عميقة ان اللبنانيين أعضاء أولاً في جماعات دينيّة المنشأ لكنّها باتت بمثابة تشكيلات اجتماعيّة وسياسيّة يبدو الخروج منها أقرب إلى مجازفة الوقوف في العراء.

واليوم وعلى رغم المناداة المتقطعة لإلغاء الطائـــفية السياسية، بات متعذّراً أن نتحدّث عن الديمـــوقراطيّة في لبنان خارج التوازن الطائفي. لقد اعترف اتفاق الطائف بهذا الفشل، إلا أنه دعا في الوقت ذاته إلى تجاوزه، إذ نظر إلى اللبنانيين بصفتهم المــزدوجة، فهم مواطنون وهم أعضاء في طوائف. ومـــا فكــــرة المجلسين، واحد محرّر من القيد الطائفي وآخر يحافظ عليه إلاّ تعبيراً سياسياً وقانونياً عن الإعتراف بالتوازن بوصفه شرطاً للاجتماع السياسي اللبناني السلمي والتوق إلى تجاوزه بوصفه شرطاً للإنتماء لدولة الحق وضمان المشاركة الديموقراطية الحقيقية. غير أن هذه الواقعية في اتفاق الطائف تحوّلت في حقيقة الأمر إلى واقعيّة الإكتفاء بالحدّ الأدنى الممكن، وهي واقعيّة بعيدة عمّا يدعو إليه رمزي الحافظ. غابت مسألة الإعتراف بالطوائف في شكل متلازم مع بناء المواطنة عن المناقشات حول نظامنا السياسي بل عن حياتنا السياسية، وأدى هذا الغياب إلى ميل متعاظم إلى اختزال اللبنانيين في جماعات انتماء تحوّلت فيها الطوائف الدينيّة إلى جماعات سياسيّة أو بالأحرى إلى كيانات مكتملة تنفصل وتتصل كما في الأنظمة الفيديرالية. وظهر ذلك «بسذاجة» من خلال اقتراح قوانين انتخابية تجعل من العقد الاجتماعي اللبناني، ليس عقداً بين اللبنانيين بل عقد بين الطوائف.

كنّا لبنانيين بحسب دستور 1926، وصرنا مواطنين في الدستور المنبثق من اتفاق الطائف، والمسألة هنا ليست لغوية فقط. والمواطنون عموماً هم أولاً أفراد وليسوا مجرد أعضاء في طوائف. أكثر من ذلك، لا يمكن اختزال المواطنين بالهوية الطائفية أو المناطقية أو الفئوية والإفتراض أن هذه الهويّات تحرّك مواقفهم كلّها وتطبع سلوكهم وتشكّل شخصياتهم. المواطنة مساواة ولقاء بين أشخاص ليسوا مجرد أجزاء من جماعات، واللقاء بين المواطنين الأشخاص والتبادل بينهم هو الذي يجدد العيش المشترك أو يجعله عيشاً واحداً، كما يقول العنوان الفرعي لكلمتي. ولا يكون هذا العيش، المصطلح الذي يحلو للبنانيين ترداده، حتى أننا وضعناه في الدستور، كناية للحديث عن تقاسم السلطة بين الطوائف، أو بالأحرى بين القوى ذات التمثيل السياسي الأوسع لها. فيلبس تارة لبوس الوحدة الوطنية وطوراً لبوس الديموقراطية التوافقية.

غير أن العيش المشترك أو الواحد بوصفه لقاء بين المواطنين يقوم على إحياء الرغبة في البقاء معاً ويفترض اختلاطاً وتفاعلاً في الاقتصاد والاجتماع والثقافة ويقتضي أيضاً شراكة في القيم. وهي تستدعي نقداً للجوهرانية الطائفية التي تقول بشخصية متجانسة للجماعة ذات الأصل الديني وبطبائع مميزات كل منها ونوع من الجوهر يتجسد في الأفراد، مما يسوِّغ محاسبة الأفراد على أفعال ارتُكبت باسم طوائفهم وعلى يد المنتمين إليها أو النافذين داخلها حتى وإن كانوا بعيدين منهم. وما خروج البعض بحسب أصحاب هذه النظرة عن المواقف المفترضة لطوائفهم إلا استثناء يؤكد صحة القاعدة. وهكذا يُرى لبنان على صورة فسيفساء لكنّ الفسيفساء تقف عند أبواب الطوائف، فلا يُنظر إلى كل طائفة بوصفها فسيفساء. البلد فسيفساء، أما الطوائف فكلٌّ متجانسٌ، يقول لنا الطائفيون الذين يقلقهم الشكّ في أمر تجانس جماعاتهم. فانقسام أبناء الطائفة الواحدة شر مستطير. أما انقسام اللبنانيين طوائف متناحرة، فهو وإن كان شراً، ليس خطراً على الوجود.

وهكذا لم تعد الطائفية اليوم خفرة او محتاجة إلى تمويه. لقد قلَّ الخجل من المطالبة بالطائفية، بل انحدر الجهرُ بهما عند بعض الجهات السياسية إلى فجاجة لم نعرف لها مثيلاً، فصارت في صلب السياسات المتصارعة على الدولة والمقوّضة لوحدتها وأدوار مؤسساتها. تراجعت فكرة المواطنة، ولن يبدأ وقف تراجعها من دون نقد العصبيّات داخل كل طائفة، وهو ضرورة لكل تجسيد سياسي للمواطنة. بالطبع، سوف تقولون لي تبقى الهوّة كبيرة بين الفكرة والواقع بعد كل الحروب ورسوخ المشاعر المتضاربة. المشكلة هي أن الدفاع عن المواطنة والعمل في سبيلها قد لا يسلك في المدى المنظور طريق الإصلاح السياسي. لذلك، فهو يتطلب بحسب موقف رمزي الحافظ وجود قوى للمواطنة وهي ما زالت قليلة ومن دون القدرة على التغيير. فالخلافات تستغرق اللبنانيين، فغالباً ما يتفاعلون إلا كمستهلكين ليس الا، بحسب ما درسه سمير خلف في كتابه الأخير المعنون «لبنان الهائم» (Lebanon Adrift).

في العقود الثلاثة الأخيرة التي مرّت على لبنان، إنهار مع إنهيار الدولة عدد من التشكيلات الحديثة كالأحزاب والنقابات. ومع ذلك قامت في المدينة صلات داخل الطبقة الوسطى من طريق التعليم والحياة الثقافية وعمَّت وسائل الاتصال ومعها الإنفتاح على العالم وفتحت مجالاً للحريات الفردية وفضاءات بعيدة من الانقسامات المعروفة. صحيح أن جزءاً من شبيبة لبنان ينقاد الى الزعماء، لكن فئة منها نحت إلى التحرر من عبادة الشخصيات ومن الانتظام في جمهور مرصوص الصفوف. المواطن لا يولد من أبهة التواريخ المنفصلة والسرديات المتعارضة. لعله يولد من الحرية ازاء الجماعة السياسية الطائفية والانصياع لقادتها. لكننا ما زلنا مضطرين للعمل التراكمي والانتظار وقد يطول هذا الانتظار. هناك أساطير كثيرة تقول بالانتظار، لكن رمزي الحافظ عصم نفسه عن لغة الأساطير. فالانتظار ههنا ليس معلقاً بأسطورة انبعاث بل هو دعوة للمثابرة حتى يصبح المواطنون أكثرية.

* وزير الإعلام والثقافة السابق، مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت

** الكتاب صادر عن دار InfoPro للنشر، يقع في 350 صفحة مع الملاحق من القطع الوسط، متوفر في المكتبات.