نجم الهاشم/ المطران صفير… مهمة في دمشق شباط 1963: من قصر المهاجرين الى قصر صربا

779

 المطران صفير… مهمة في دمشق شباط 1963: من قصر المهاجرين الى قصر صربا

المسيرة/19 أيار/15/عن موقع القوات اللبنانية

كتب نجم الهاشم في “المسيرة”:

عندما سئل البطريرك صفير مرة إذا كان سيزور قصر المهاجرين (في دمشق)، أجاب بسؤال: وأين هو قصر المهاجرين؟

لم يكن البطريرك صفير غريبًا عن السياسة، بل كان في عمق التحولات السياسية الكبرى التي شهدها لبنان والمنطقة. منذ أصبح أميناً لسر البطريركية المارونية في بكركي في العام 1956 صار حافظ أسرار الكنيسة الأقرب الى البطريرك مار بطرس بولس المعوشي. وبعدما صار مطراناً في 16 تموز 1961 تولى مهمات كثيرة لها علاقة بالسياسة وكانت بكركي في صلبها ومحورًا أساسيًا لها الى الحد الذي يمكن معه القول إن كل السياسات كانت تمر ببكركي وحكمًا بالمطران صفير.

هذا الدور الكبير الذي اضطلع به أهّله ليطلع على عالم الأسرار والخفايا السياسية وليكون مشاركاً فيه وصانعًا له. في الظاهر قد يبدو البطريرك صفير أنه بعيد عن السياسة. ولكن في الواقع هو في قلب القرار السياسي وإن كان بعيدًا عن الممارسة السياسية المباشرة. لقد حافظ دائمًا على تلك المسافة وعلى تلك الهالة التي تحلى بها.

تجلى دور البطريرك في محطات كثيرة. هو الذي ولد مع ولادة لبنان الكبير في العام 1920 كان بحجم هذا اللبنان. يدرك سر تكوينه وصعوبة بقائه واستمراره وعمق وأهمية دور المسيحيين فيه. آخر مرة زار دمشق كانت في العام 1975 موفدًا من بكركي لشكر الرئيس السوري حافظ الأسد على مشاركته في حفل تنصيب البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش. بعد ذلك بدأت الحرب وكانت للمطران صفير لقاءات سرية كثيرة بين القصر الجمهوري في بعبدا وبكركي ومع الجبهة اللبنانية. ولكن دائمًا ظلت هناك بوصلة تحدد نظرته الى العلاقة بين لبنان وسوريا. هذه النظرة لم تتبدل بعدما أصبح بطريركاً في 19 نيسان 1986. بقي رافضًا للوصاية السورية على لبنان مؤمناً بأن هذا الوطن يستحق السيادة والحرية والاستقلال، وبأن خيار الحرية لا يعلو عليه أي خيار آخر. لذلك ظل رافضًا أن يزور دمشق وإن لم يقفل أبواب بكركي أمام الموفدين السوريين.

في عيد مار مارون في 9 شباط 1963 كانت للمطران صفير زيارة الى سوريا موفدًا من البطريرك المعوشي. لم تكن زيارة عادية. هناك قابل شخصيات سورية من بينها الرئيس ناظم القدسي في قصر المهاجرين في دمشق. كانت سوريا خرجت قبل عامين من دولة الوحدة مع مصر وكان يحكمها الانفصاليون قبل شهر واحد من الانقلاب الذي نفذه حزب “البعث” في 8 آذار 1963. بعد لقاءاته السورية عاد المطران صفير لينقل الأجواء الى رئيس الجمهورية فؤاد شهاب في قصر صربا.

ماذا كتب المطران صفير عن هذه المهمة في دمشق؟

“الاثنين 11/2/63: الساعة 11 ونصف، توجهنا الى قصر المهاجرين، ودخلنا قاعة الاستقبال السفلى حيث انتظرنا ما يقارب العشرين دقيقية قضيناها مع الأمين العام لرئاسة الجمهورية رياض بك الميداني، وهو صديق لغبطته… ثم استدعينا الى الطابق الأعلى حيث استقبلنا فخامة الرئيس، وكان بانتظارنا في قاعة الاستقبال مع رياض بك الميداني، الذي كان استأذن قبل خمس دقائق.

والرئيس السوري رجل في حدود الستين، خطه الشيب قليلاً وقسمات وجهه تنمّ عن تقشف، فبادرنا بالسؤال عن صحة غبطته، بينما كان المصوّرون يلتقطون لنا الصور التقليدية، فأجبناه أن غبطته كلفنا بأن ننقل الى فخامته تقديره وتحياته واحترامه وأطيب أمانيه لفخامته بالصحة ولسوريا في عهده بالازدهار…

وعندما عرّفناه في بدء المقابلة الى الأب لويس حرفوش قال: إن لنا معه مواقف خطيرة ونعرفه، ثم انسحب الأب حرفوش مبديًا أن يترك لنا مجالاً للخلوة، فبقيت مع فخامته ورياض بك فقلت له: إن صاحب الغبطة متأثر لما تلبّد في سماء العلاقات السورية ـ اللبنانية من غيوم، ويأسف لها شديد الأسف، ويأمل أنها تبدد بتوجيهات فخامتكم وحكمتكم. فأجاب إذ ذاك بعصبية ظاهرة: إننا نأسف شديد الأسف لما يحدث، والبلدان أخوان والمصالح متشابكة، ولكن ما حيلتنا لهؤلاء الأربعمائة أو خمسمائة شخص من الانتهازيين النفعيين الذين يعكرون صفو هذه العلاقات بين البلدين، ولماذا يصرف سعيد فريحة في الكاباريهات كل ليلة ألفي ليرة، ويبني هذا وذاك المباني والقصور، ألا يخشون الله؟ أليس هذا مالاً حرامًا لا يثمر مال الدماء على الشعب البريء. ماذا نطلب نحن من لبنان؟

إن كتّاب الصحف التي تهاجمنا يقولون إنهم أحرار، نعم ونحن أحرار ولكن ما مفهوم الحرية؟ هم أحرار في السياسة الداخلية ولكن ليسوا أحرارًا في شتم الناس. فليقرأوا القانون الفرنسي مثلاً: فصحف العالم حرة ولكن لا لسباب الناس، كل امرئ حر في بيته ولكن ما قولك في رجل يحمل بندقية ويقف في نافذة بيته ويطلق رصاصها على الناس، ويقول إنه حر، أهذه هي الحرية؟ هو حر أن يعمل داخل البيت ما يريد ولكن لا خارجه. يبدو أن المصريين يخططون فيفسدون ضمائر الناس فيرشون بعض الرؤوس وهؤلاء بدورهم يرشون الصغار، وهكذا تفسد الضمائر، وهم يعملون على تقوية الجميل ليخيفوا الرئيس ولذلك يتكلمون دائمًا عن الجميل ويسكتون عن شمعون فلا يشتمونه ليخيفوا به الاثنين.

ماذا نطلب؟ أن يضعوا نطاقاً حول السفارة المصرية فلا يجيزون لها كل ما تريد، فهناك عرف دولي يحد من النشاط المعادي في السفارات. هذا ما كان أبداه رياض بك عندما قال: لسنا نطلب من لبنان أن ينحاز إلينا ولا أن يقطع علاقاته مع مصر، إنما أن يبقى على الحياد. وسال: أليس العريان من ذبح الخفراء الخمسة في المصنع؟

ثم قال الرئيس: ماذا تريدون أن نعمل لقد صبرنا كثيرًا وسعينا كثيرًا فضاعت المساعي. يقولون إننا طوّقنا دير العشائر. أي دير عشائر؟ نعم نحن 5 ملايين وعندنا قوة ولكن هل نستعملها ضد لبنان أم ضد إسرائيل؟ نحن ضربنا شبلي العريان لأنه يسهل اجتياز المتسللين ونقل السلاح، وماذا تريدون أن نعمل هل نتركه ما دام ليس من يردعه. إننا نضربه ونضرب “أبوه” لأننا نريد أن نرد الأذى عن نفوسنا؟ قالوا إن قواتنا دخلت الحدود على مسافة 10 كيلومترات. فهذا كذب، وبعد ماذا أستطيع أن أعمل؟ لقد نفد الصبر حتى أنهم قالوا لي هنا: أنت لا تصلح للحكم، إذهب واسكن سويسرا، لأننا نحن نعرف هؤلاء الناس ولا تنجح معهم إلا هذه الوسيلة. ووجدت أن قومنا محقون. إن المخرج بتغيير الحكم، ولا يبقى إلا أن يثور شعب لبنان على الذين يستغلونه ويتركون المستثمرين ينزلون به هذه الأضرار. ونحن مطلعون على موقف غبطته ونعرف أفكاره ولكن عندكم يعرضون عنه ويريدون أن يعادوه.

فأكدنا له أن غطبته متأثر وأنه يسعى ويبذل كل مجهود، وأننا سننقل إليه ما تلطف به فخامته في هذا الصدد، وتمنينا مجددًا إعادة الأمور الى نصابها.

ثم تطرق الى قضية صبري حماده فقال: هل يجوز أن يأخذ (عبد الحميد) السرَّاج بسيارته ويفرح بذلك مفاخرًا؟ لقد قال ذلك أمام خمسة من ضباطنا ظناً منه أنهم يؤيدونه ولم يكن يدري أنهم استدرجوه لذلك. وأكد أن السراج صاحبه فما هذه الصحبة التي تنزل الضرر بوطن، ويستخدم سيارة الرئاسة لتهريب الناس والحشيشة. لقد كان لدينا قبلاً بعض الشك بالأمر والآن تأكدناه! عندما هرب القوميون إلينا، سلمناهم واحدًا واحدًا، كان بإمكاننا أن نحميهم، فلم نفعل حرصًا منا على لبنان. وقال هل تعرفون كم رجلاً قتل في بغداد؟ أجبت قيل نحو خمسة آلاف فقال 7 آلاف في مدة 12 ساعة هل هذا يجوز؟ أين الضمير يا ويلهم من الله؟!

ثم شكرناه على إيفاده من مثله في احتفال عيد مار مارون. وقال إنه أتاه رسول من قبل رئيس لبنان محاولاً إقناعه فأرسله لأن الجدل أصبح عبثاً، وقال نحن رفضنا مجيء الوفد العسكري فما الفائدة منه ما دامت هذه التصرفات؟ يقيمون في وجه سلام كرامي، وفي وجه اليافي عدنان الحكيم، وهكذا هذا هو المخطط الناصري”…

في 12 شباط 1963 أنهى المطران نصرالله صفير زيارته الرعوية الى سوريا، وقد تحولت سياسية بامتياز، وعاد الى لبنان حاملاً معه انطباعات كثيرة حول وضع الموارنة وسائر المسيحيين في سوريا، وحول العلاقات اللبنانية ـ السورية.

نقل المطران صفير الى البطريرك المعوشي ملخصًا عن لقاءاته. فما كان من البطريرك المعوشي إلا أن أوفده الى قصر زوق مكايل للقاء الرئيس فؤاد شهاب، والتباحث معه في هذه المسائل.

ماذا جرى بين الرئيس اللواء فؤاد شهاب والمطران صفير الساعة العاشرة من قبل ظهر الجمعة 15 شباط 1963؟

الجواب في المحضر الذي كتبه المطران صفير بعد عودته وسلمه الى البطريرك وقد جاء فيه: “بناء على تكليف غبطة السيد البطريرك طلبت مقابلة فخامة رئيس الجمهورية يوم الأربعاء فأعطيتها يوم الجمعة الساعة العاشرة، وتوجهت الى القصر في صربا. وبعد انتظار عشر دقائق قابلت فخامة الرئيس ونقلت إليه دعاء غبطته، وأعربت له أنه كلفني أن أطلعه على نتيجة الاتصالات التي قمت بها في دمشق بمناسبة عيد القديس مارون والقداس الذي أقمته يوم الأحد في 10 الجاري وقد حضره ممثلون عن فخامة الرئيس، ودولة رئيس مجلس الوزراء، وأربعة وزراء وعدد من الوجهاء والمؤمنين.

ثم أخبرت الرئيس أني قابلت الفريق زهر الدين والوزير روبير الياس، وشكري القوتلي، والرئيس القدسي وأوجزت له مقابلة الفريق زهر الدين ثم قرأت له ما كتبت بهذا الصدد، ولما قلت له إن القوم عاتبون أولاً للمتسللين الذين يحاولون إثارة الشغب، وثانيًا لحملات الجرائد، وأنهم ما طوقوا دير العشائر خلافاً لما نشرت الجرائد، وهم لو أرادوا لاجتاحوا لبنان. انتفض فخامته وقال: نحن تبعنا خطة ألا نرفع الصوت بالصراخ، إنما أن نعمل ما نعمله، بهدوء، هم يريدون اجتياح لبنان فليقفوا أولاً على أرجلهم، لا إن لبنان لن يجتاحوه. ثم راح يشرح السياسة التي يتبعها في لبنان وهي قائمة على جمع العناصر في محبة الوطن، وتحبيب لبنان الى المسلمين الذين يميلون الى عبد الناصر. وقال: السوريون يأخذون علينا أمرين: نشاط السفارة المصرية وهجوم الجرائد عليهم. أما الأمر الأول، فلا يمكنهم أن يثبتوا لنا أمرًا واقعيًا يمكننا أن نلوم عليه السفارة، أن يطلبوا منا طرد السفير وقطع العلاقات، فهذا ما لن نصنعه. وأما الجرائد فيقتضي لنا قانون لنردعها وهذا معناه أننا نكون عطلنا حرية الكلام، وسرنا بالبلاد في طريق الدكتاتورية. فإذا كان نواب الشعب يرضون بذلك، فأنا أرضى ولكني واثق أن الشعب لن يرضى، وقد لاقينا كثيرًا من الصعوبات في استصدار قانون يعاقب مهاجمة رؤساء الدول. وأظن لا بل أعتقد أن الرئيس القدسي مطلع على موقفي ويفهم نوايانا. وقد زارني هذا الصيف خالد العظم وحاول إقناعي بجر لبنان في خط سوريا، فرفضت فذهب يخبر في صوفر أنني مباع لعبد الناصر، ويعلم الله كم أكره عبد الناصر، والعرب أجمعين، ولو لم أكن في الحكم ولو كنت من عامة الناس، لما كنت أضع يدي بيد أحد منهم.

وتابع: قد حاولنا أن نجتمع بالرئيس القدسي إنما اشترطت أولاً أن نتفاهم على نص البلاغ المشترك الذي سنصدره، ونتفاهم على جميع الأمور قبل الاجتماع بحيث يأتي هذا الاجتماع موفقاً فلم يقبلوا، وخالد العظم قال: إن المشكلة بين لبنان وسوريا هي مشكلة سياسية قبل أن تكون اقتصادية، وكلمة واحدة تخرج من فم سياسي لدليل على ما وراءها مما رسخ في ذهن قائلها. فالسوريون لا يرغبون في الاتفاق مع لبنان لغايات لا نعرفها، وعلى الأخص خالد العظم بعينه فهو رجل رأسمالي تهمه مصلحته الخاصة واللبنانيون إذا فتحت لهم أسواق سوريا غزوها بما عرفوا به من مرونة وهدوء، لذلك يقدم السوريون حججًا يختبئون وراءها ونحن لا نصدقهم.

أما قضية الناصرية في سوريا، فإني أعتقد أن صغار الضباط هم ناصريون، والرئيس القدسي إذا كان قال لك ما قاله فلأنه لا يجرؤ على قول الخلاف، فهو سجين الجيش الحاكم فعلاً وما رجال السياسة سوى دمى يحركهم الجيش. وعلى كل فإني أعرف خطة السوريين فهم يريدون أن يشقوا لبنان ليقتتل أبناؤه مثلهم سنة 1958، وما أتيت أنا الى هذا الكرسي لأضرم الفتنة في لبنان، فإني أفضل أن أعتزل الحكم ألف مرة ولا أن تعود أيام الثورة، وخطتهم تقوم على إثارة الجميّل ضد إده، واليافي ضد سلام، وهكذا غايتهم التفرقة والتقسيم ليسودوا ولكني لن أترك لهم منفذاً. لقد استلمت البلاد في حالة خراب، فحاولنا أن نجعل منها جمهورية بحيث أصبح المسلمون يعترفون بلبنان ويهتفون له. وهذا كان مجهولاً من قبل لأنه معروف أن المسلمين يميلون الى عبد الناصر فهم لم يجربوه بعد، ويظنون أنهم سينالون السعادة على يده، أما المسيحيون فلبنانيون ونحن حاولنا أن نصهر جميع العناصر في الوطن الواحد.

يريد السوريون أن يعتمدوا على الدروز ومجيد إرسلان، ولكن ماذا يمثل؟ ويريدون أن يعتمدوا على ريمون إده. أمس استدعيت ابن إده و”غسلته”، لأنه يوهم الناس في سوريا أنه يمثل شيئاً ليصل الى رئاسة الجمهورية، ولكني جابهته بالحقيقة قائلاً له: قل لي ماذا تمثل وماذا توهم الناس، كفانا تدجيلاً ومداورة؟

وعلى كل فإني باقٍ على اتصالي مع الرئيس القدسي فيمكنكم أن تطمئنوا غبطة السيد البطريرك الى أننا ساهرون على الأوضاع”.

في 8 آذار 1963 حصل انقلاب “البعث” في سوريا. وفي 26 نيسان كان المطران صفير يقابل السفير الأميركي في بيروت موفدًا أيضًا من البطريرك المعوشي للتوسط من أجل تأمين انتقال رئيس الوزراء السوري السابق خالد العظم من السفارة التركية التي لجأ إليها في سوريا الى بيروت بعدما طلب العظم وساطة بكركي.

*النصوص من كتاب “حارس الذاكرة” لجورج عرب